مماثلة المؤمن للنخلة
إنَّ الشجرة الكريمة المباركة – أعني النخلة – التي هي أفضل الشجر وأطيبه  وأحسنه قد جعلها الله في كتابه الكريم مثلاً لعبده المؤمن ، يقول الله  تعالى : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً  كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)  تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ  الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:??–??] . وعن  ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إِنَّ  مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَإِنَّهَا مَثَلُ  الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ ؟ )) فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ  الْبَوَادِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا  النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ . ثُمَّ قَالُوا حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا  رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : (( هِيَ النَّخْلَةُ )) [1] وعن ابن عمر رضي  الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((مَثَلُ  الْمُؤْمِنِ مَثَلُ النَّخْلَةِ , مَا أَخَذْتَ مِنْهَا مِنْ شَيْءٍ  نَفَعَكَ)) [2].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ  عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِنَاعٍ عَلَيْهِ رُطَبٌ فَقَالَ : مَثَلُ كَلِمَةٍ  طَيِّبَةً { كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي  السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } قَالَ :  ((هِيَ النَّخْلَةُ)) ، { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ  خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ }  قَالَ : (( هِيَ الْحَنْظَلُ)) قَالَ : فَأَخْبَرْتُ بِذَلِكَ أَبَا  الْعَالِيَةِ فَقَالَ : صَدَقَ وَأَحْسَنَ[3].
والنخلة إنما حازت هذه الفضيلة العظيمة بأن جُعلت مثلاً لعبد الله المؤمن  لأنها أفضل الشجر وأحسنه وأكثره عائدة ، ويكفيها فضيلة أنها خُصت من بين  سائر الشجر بأن جُعلت مثلاً للمؤمن ؛ مما يدل على كريم فضلها ورفيع قدرها  وتنوع فضائلها ، كثبات أصلها وارتفاع فرعها وإيتائها أكُلَها كل حين ووصفها  بالبركة وأنها لا يؤخذ منها شيء إلا نفع ، ونحو ذلك مما يدل على فضل  النخلة وتميزها وتشابهها مع المؤمن المطيع لله الذي قامت في قلبه كلمة  الإيمان وانغرست في صدره وأخذت تثمر الثمار اليانعة والخير المتنوع .
ومن يتأمل في النخلة والمؤمن المطيع لله يجد بينهما أوجهاً من الشبَه كثيرة ، منها :
v  أن النخلة لابد لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر ، وكذلك الإيمان لابد  له من أصل وفروع وثمر ؛ فأصله الإيمان بأصول الإيمان الستة المعروفة ،  وفروعه الأعمال الصالحة والطاعات المتنوعة والقربات العديدة ، وثمراته كل  خير يحصِّله المؤمن وكل سعادة يجنيها في الدنيا والآخرة .
v   والنخلة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنمِّيها ، فهي لا تحيا ولا  تنمو إلا إذا سقيت بالماء ، فإذا حُبس عنها الماء ذبلت ، وإذا قُطع عنها  تماماً ماتت ؛ وهكذا الشأن في المؤمن لا يحيا الحياة الحقيقية ولا تستقيم  له حياته إلا بسقي من نوع خاص ؛ وهو سقي قلبه بالوحي : كلام الله وكلام  رسوله صلى الله عليه وسلم . قال الله تعالى : {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا  فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ  مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [الأنعام:122] .  وبهذا يُعلم أن شجرة الإيمان في القلب ، إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل  وقت بالعلم النافع والعمل الصالح وإلا أوشكت أن تيبس . عن عبد الله بن عمرو  بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إِنَّ  الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ  الْخَلِقُ ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي  قُلُوبِكُمْ)) [4] .
v  ومن أوجه الشبه بين المؤمن والنخلة : أن النخلة شديدة الثبوت كما قال  الله تعالى { أَصْلُهَا ثَابِتٌ } ، وهكذا الشأن في الإيمان إذا رسخ في  القلب ؛ فإنه يصير في أشد ما يكون من الثبات لا يزعزعه شيء بل يكون ثابتاً  كثبوت الجبال الرواسي ، سُئل الأوزاعي رحمه الله عن الإيمان أيزيد ؟ قال : "  نعم حتى يكون مثل الجبال " قيل : أينقص ؟ قال : " نعم حتى لا يبقى منه شيء  " .
v  والنخلة لا تنبت في كل أرض ، بل لا تنبت إلا في أراضٍ معيَّنة طيبة  التربة ، فهي في بعض الأماكن لا تنبت مطلقاً ، وفي بعضها تنبت ولكن لا تثمر  ، وفي بعضها تثمر ولكن يكون الثمر ضعيفاً ، فليست كل أرض تناسب النخلة .  وهكذا الشأن في الإيمان ؛ فهو لا يثبت في كل قلب ، وإنما يثبت في قلب من  كتب الله له الهداية وشرح صدره للإيمان ، والقلوب أوعية متفاوتة وبعضها  أوعى من بعض .
v  وقد وصفت النخلة في الآية بأنها شجرة طيبة ، وهذا أعم من طيب المنظر  والصورة والشكل ومن طيب الريح وطيب الثمر وطيب المنفعة ؛ والمؤمن كذلك  أجلُّ صفاته الطيب في شؤونه كلها وأحواله جميعها ، في ظاهره وباطنه وفي سره  وعلنه ، ولهذا عندما يدخل المؤمنون الجنة تتلقاهم خزنتها قائلة لهم :  {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:??] ، وقال  تعالى : {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ  سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}  [النحل:32] .
v  والنخلة وصفت بأنها ما أخذت منها من شيء نفعك كما في حديث ابن عمر  المتقدم ، فكل شيء في النخلة ينفع ، وهكذا الشأن بالنسبة للمؤمن مع إخوانه  وجلسائه ؛ لا يُرى فيه إلا الأخلاق الكريمة والآداب الرفيعة والمعاملة  الحسنة والنصح لجلسائه وبذل الخير لهم ، ولا يصلُ إليهم منه ما يضر ، بل لا  يصل إليهم منه إلا ما ينفع .
v  ثم إن قلب النخلة وهو الجمار من أطيب القلوب وأحلاها ؛ إذ هو حلو الطعم  جميل المذاق ، وكذلك قلب المؤمن من أطيب القلوب وأحسنها ، لا يحمل إلا  الخير ، ولا يبطن سوى الاستقامة والصلاح والسلامة .
v  وثمر النخلة من أنفع ثمار العالم وله حلاوة لا تدانيها حلاوة ، وكذلك  الإيمان له حلاوة ولذة لا يذوقها إلا صحيح الإيمان . عن أنس رضي الله عنه :  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ  حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ  إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ  إِلَّا لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا  يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)) [5].
v  ثم إن النخل بينه تفاوت عظيم في شكله ونوعه وثمره ، فليست النخيل في  مستوى واحد في الحسن والجودة بل بينه من التفاوت والتمايز الشيء الكثير ؛  وهكذا الشأن بين المؤمنين ، فالمؤمنون متفاوتون في الإيمان ، وليسو في  الإيمان على درجة واحدة ، بل بينهم من التفاوت والتفاضل الشيء الكثير ، كما  قال الله تعالى : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا  مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ  وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ  الْكَبِيرُ} [فاطر:32] .
v  والنخلة كلما طال عمرها ازداد خيرها وجاد ثمرها ، وكذلك المؤمن إذا طال  عمره ازداد خيره وحسن عمله . عن عبد الله بن بُسْر رضي الله عنه : أن  أعرابياً قال : يا رسول الله من خير الناس ؟ قال : (( مَنْ طَالَ عُمُرُهُ  وَحَسُنَ عَمَلُهُ ))[6]
فهذه بعض أوجه الشبه بين المؤمن وبين النخلة ؛ يحيا بتأملها قلب المؤمن ،  ويزيد إيمانه ، ويقوى يقينه ، ويعظم شكره وحمده لربه . قال الله تعالى  {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ  طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي  أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ  لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .
بما تقدَّم يعلم أن الإيمان شجرة مباركة عظيمة النفع غزيرة الفائدة كثيرة  الثمر لها مكان خاص تغرس فيه ولها سقي خاص ولها أصل وفرع وثمار :
أما مكانها : فهو قلب المؤمن ، فيه توضع بذورها وأصولها ، ومنه تتفرع أغصانها وفروعها .
وأما سقيها : فهو الوحي المبين ؛ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فبه تسقى هذه الشجرة ، ولا حياة لها ولا نماء إلا به .
وأما أصلها : فهو أصول الإيمان الستة ، وأعلاها الإيمان بالله تعالى فهو أصل أصول هذه الشجرة المباركة .
وأما فروعها : فهي الأعمال الصالحة والطاعات المتنوعة والقربات العديدة التي يقوم بها المؤمن .
وأما ثمراتها : فكل خير وسعادة ينالها المؤمن في الدنيا والآخرة فهو ثمرة من ثمار الإيمان ونتيجة من نتائجه .
وإنا لنسأل الله الكريم أن يُعظِم نماء هذه الشجرة الكريمة المباركة في  قلوبنا ، وأن يجعلنا من عباده المؤمنين المتقين ، وأن يصلح لنا شأننا كله ،  فإنه خير مسئول وأفضل مأمول .
________________
[1] رواه البخاري (61) ومسلم (2811) .
[2] رواه الطبراني (13514) ، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (5848).
[3] الترمذي (3119) مرفوعاً وموقوفاً . وقال الألباني رحمه الله : " ضعيف مرفوعاً ، وصحيح موقوفاً " .
[4] رواه الحاكم (1/4) وحسنه الألباني رحمه الله في (الصحيحة) (1585)  .
[5] رواه البخاري (16) ومسلم (43) .
[6] رواه الترمذي (2329) وصححه الألباني رحمه الله في (صحيح سنن الترمذي) (1898) .
منقوووووول