وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث خطبته العظيمة في حجة الوداع:
(ولهن عليكم (أي للزوجات) رزقهن (أي كسوتهن) بالمعروف) وقال جل وعلا: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) لإقامة الحجة وقطع المعذرة.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في هذا المعنى في كتابه:
(إعلام الموقعين) فصلا عظيما، بيّن فيه أن الشريعة راعت عوائد الناس ومقاصدهم وعرفهم ولغتهم، حتى تكون الأحكام والفتاوى على ضوء ذلك، فقد يكون عرف هذه البلدة وهذا الإقليم غير عرف الإقليم الآخر والبلدة الأخرى.
وقد يكون لهذا الشخص من النيات والمقاصد ما ليس لشخص آخر، ويكون لهؤلاء من العوائد ما ليس للآخرين، وقد تكون أزمان لا يليق أن يفعل فيها، ما يليق أن يفعل في الزمن الآخر، كما كانت الدعوة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، غير حالها في المدينة، لاختلاف الزمان والمكان والقوة والضعف، وهذا من عظيم حكمة الله جل وعلا ورعايته لأحوال عباده.
وهكذا بعض الأزمان قد يسوغ فيها ما لا يسوغ في أزمان أخرى، ومثل لذلك بأمثلة منها إقامة الحد في أرض العدو إذا وجد من بعض الغزاة ما يوجب الحد في أرض العدو، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إقامة الحد في أرض العدو. لماذا؟ لأنه قد يغضب ويستولي عليه الشيطان فيرتد عن دين الإسلام لذلك ولقربه من العدو.
ومن ذلك عام المجاعة، فإذا كان عام مجاعة، واشتدت الحال بالناس لا ينبغي القطع في هذه الحالة للسارق، إذا ادعى أن الذي حمله على ذلك: الضيق، والحاجة، وعدم وجوده شيئا يقيم أَوَدَه ويسد حاجته، لأن هذا شبهة في جواز القطع، والحدود تُدرأ بالشبهات. لهذا أمر عمر رضي الله عنه وأرضاه في عام الرمادة بعدم القطع، وحكم بذلك رضي الله عنه وأرضاه لهذه الشبهة.
وهكذا تعتبر العواقب، كما قال الله سبحانه: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ).
وهذا كله من محاسن هذه الشريعة وعظمتها ، أنها صانت أموال الناس وأعراضهم كما صانت أبشارهم ودماءهم ، وأمرتهم بالكسب وحثتهم عليه، كما قال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا أو كذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) خرجه مسلم في صحيحه.
ومن تأمل هذه الشريعة في مواردها ومصادرها، ونظر ما جاءت به من الأحكام العظيمة العادلة، والإحسان إلى الخلق، ورعاية الفقراء والمحاويج، والصغار والكبار وغيرهم، حتى البهائم اعتنت بها الشريعة، وحرمت ظلمها والتعدي عليها = عرف أنها شريعة من حكيم حميد، خبير بأحوال عباده، عليم بما يصلحهم، وعرف أيضا أنها من الدلائل القاطعة على وجوده سبحانه وتعالى وكمال قدرته وحكمته وعلمه، وعلى صدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله حقا.
ومن تأمل هذا حق التأمل: عرف أن هذه الشريعة كسفينة نوح عليه السلام، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، فهكذا هذه الشريعة العظيمة من تمسك بها واستقام عليها نجا، ومن حاد عنها هلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبذلك يتضح للبيب أن العباد جميعا في أشد الضرورة إلى هذه الشريعة، لما فيها من حل مشاكلهم، ولما فيها من أحكام عادلة، ولما فيها من التوسط بين الاشتراكية الإلحادية الماركسية المنحرفة، وبين الرأسمالية الغاشمة الظالمة، فهي وسط في كل شيء، وسط في اقتصادها بين اشتراكية الملحدين وماديتهم وبين الرأسمالية الغاشمة التي لا حدود لها، فهي وسط بين طرفين، عدل بين جورين، وكذلك وسط في جميع أمورها لا تطرف في غلو ولا تطرف في جفاء، بل هي وسط في شأنها كله.
فمن تأمل هذا الأمر، وعُني به: عرف أنها دين ودولة، ومصحف وسيف، عبادة وحسن معاملة، جهاد وأعمال صالحة، إنفاق وإحسان وطاعة لله عز وجل والرسول صلى الله عليه وسلم توبة من الماضي، وعمل للمستقبل، فيها كل خير .
فهي جمعت خير الدنيا والآخرة، لا يجوز أن يفصل ديننا عن دنيانا، ولا دنيانا عن ديننا، بل ديننا ودنيانا مرتبطان ارتباطا وثيقا في هذه الشريعة، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) النساء/58 .
فهي حاكمة على الناس كلهم، على الأمراء وغير الأمراء، على الأفراد وعلى الجماعات، عليهم جميعا أن يكونوا تحت حكمها ، وتحت سلطانها في كل شيء .
ومن زعم فصل الدين عن الدولة، وأن الدين محله المساجد والبيوت، وأن للدولة أن تفعل ما تشاء، وتحكم بما تشاء، فقد أعظم على الله الفرية، وكذب على الله ورسوله، وغلط أقبح الغلط، بل هذا كفر وضلال بعيد ، عياذا بالله من ذلك، بل جميع العباد مأمورون بالخضوع لأحكام الشريعة وتشريعاتها في العبادات وغيرها .
ويجب على الدولة أن تكون منفذة لحكم الشريعة، سائرة تحت سلطانها في جميع تصرفاتها، وعلى هذا سار النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وسار أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، وسار عليه أئمة الإسلام بعد ذلك في كل شيء، وقد جعل الله هذه الشريعة روحا ونورا وحياة للناس" انتهى باختصار من "مجموع فتاوى ابن باز" (2/232-250).
وينظر كلاما مطولا نافعا ، للعلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله ، في تفسير قول الله تعالى : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) الإسراء/9 ، في تفسيره "أضواء البيان" (3/374) وما بعدها .
والخلاصة :
أن من يتحدث عن وصف الإسلام بـ"القضية الشخصية" : لم يعرف حقيقة الإسلام ، وحقيقة دين الله الذي أنزله على عباده ، وأمرهم أن يدينوا له به ، ومثل هذا يحتاج إلى أن يعلم ، ويبين له الحق فيما قاله ، ويدل على الهدى الذي جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم .
ويحاور الشخص المعين من هؤلاء ، بما يناسب حاله ، وما يرجى نفعه به .
والله أعلم.
المراجع
الاسلام سؤال وجواب