• الآية 18، والآية 19، والآية 20: ﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ ﴾: يعني إنَّ الله يعلم المنافقين المُثَبِّطين للمؤمنين عن القتال (والمقصود أنهم يُلقون في نفوسهم الرغبة في القعود عن القتال، ويخوفونهم من العدو) ﴿وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ﴾ المنافقين: ﴿ هَلُمَّ إِلَيْنَا ﴾: أي تعالوا وانضموا إلينا، واتركوا محمدًا وأصحابه يقاتلون وحدهم، فإننا نخاف عليكم الموت، ﴿ وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ يعني: وهم مع تخذيلهم هذا لا يأتون القتال إلا نادرًا (إذ يتخلفون في أكثر الغزوات، وإنْ حضروا قتالًا، فإنهم يقاتلونَ دفعًا لتُهمة النفاق عن أنفسهم وخوفًا من الفضيحة).
♦ وترونهم أيها المؤمنون ﴿ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ﴾: أي بُخَلاء عليكم بالمال والنفس والجهد (لِمَا في نفوسهممن العداوة والحقد، وحب الحياة وكراهية الموت)، ﴿ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ ﴾ بسبب هجوم العدو: ﴿ رَأَيْتَهُمْ ﴾ أيها النبي ﴿ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ﴾ بخوفٍ شديد ﴿ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ ﴾ أي يَنظرون بأعينهم يمينًا وشمالًا(خوفًا من أن يأتيهم العدو من أيِّ جهة) ﴿ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ﴾: يعني كحال مَن تدور عينه إذا حَضَرَه الموت من شدة الخوف (وهو المُحتضِر الذي لا يستطيع الكلام، مِن شدة الآلام التي يَشعر بها، حتى يُصاب بالإغماء)، ﴿ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ ﴾ وانتهت الحرب: ﴿ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ﴾: يعني آذوكم بألسنةٍ حادة كالحديد، وبالَغوا في عِتابكم ولَوْمكم وإسماعكم ما لا يُرضيكم، وَوَصفوا أنفسهم بالشجاعة والنجدة، (واعلم أن السَّلقفي اللغة هو بَسْط العضو للأذى،سواء أكان هذا العضو يدًا أو لسانًا).
♦ وتجدونهم ﴿ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ﴾: أي بُخَلاء على مشاريع الخير وما يُنفَق في سبيل الله (لأنهم لا يؤمنون بالثواب في الآخرة)، ﴿أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ بقلوبهم (فلذلك هم جُبناء عند اللقاء، بُخلاء عند العطاء)، ﴿فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾ أي أبطل ثواب أعمالهم (لأنه لم يكن عن إيمان، ولم يكن خالصًا لوجهه)، ﴿ وَكَانَ ذَلِكَ ﴾ أي إحباط أعمالهم ﴿ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾.
♦ وهؤلاء المنافقون ﴿
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا ﴾: أي لم يُصَدِّقوا أن الأحزاب قد هَزَمهم الله تعالى وأنهم عادوا إلى بلادهم (وذلك لضعف يقينهم في وعد الله بالنصر)، ﴿
وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ ﴾ مرة أخرى إلى "المدينة" - على سبيل الفرض -: ﴿
يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ ﴾: أي سيَتمنَّى أولئك المنافقون أنهم كانوا يعيشون بين أعراب البادية (الصحراء)، حتى لا يقاتلوا الأحزابَ معكم،
بل يَكتفونَ بأن ﴿
يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ ﴾ أي يسألون الناس عن أخباركم: (هل انهزمتم أو انتصرتم؟)، (وبالطبع يتمنون هزيمتكم)، ﴿
وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ ﴾ أي يعيشون معكم في المدينة: ﴿
مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ﴾ (وذلك لكثرة جُبنه موضعف يقينهم)
.
♦ وفي الآيات السابقة إشارة إلى وجوب الوفاء بالعهد، لأنَّ نقض العهد من علامات النفاق،
واعلم أيضًا أنَّ كلمة: (قد) المذكورة في قوله تعالى: ﴿
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ﴾، جاءت هنا للتأكيد والتقرير، إذ هي تأتي أحيانًا للتقليل، وتأتي أحيانًا للتكثير.
• الآية 21: ﴿
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ ﴾ - أيها المؤمنون - ﴿
فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ أي قدوة حسنة في أقواله وأفعالهوصبره وثباته،
وهذه القدوه الحسنة تكونُ ﴿
لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ ﴾ (إذ يَقتدي به صلى الله عليه وسلم ويَتَّبع سُنَّته مَنكان يرجو ثواب ربه، وينتظر مَجيء اليوم الآخر وما فيه مِن نعيمٍ مقيم أو عذابٍ أليم)، ﴿
وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ يعني: ويَقتدي به مَن أكثرَ مِن ذِكر الله تعالى واستغفاره وحَمْدِه في كلحال.
• الآية 22: ﴿
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ ﴾ قد حاصروا "المدينة"،تذكَّروا أنَّ موعد النصر قد اقترب، لأن الله تعالى قد وَعَدَهم في القرآن أن النصر يأتي بعد الشدة، وذلك في قوله تعالى: (
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)، كما أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرهم بقدوم الأحزاب عليهم، وأن الله ناصرهم عليهم، فـ ﴿
قَالُوا ﴾: ﴿
هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ من الابتلاءوالمِحنة والنصر ﴿
وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ ﴿
وَمَا زَادَهُمْ ﴾ أي: ما زادتهم رؤيتهم للأحزاب ﴿
إِلَّا إِيمَانًا ﴾ أي تصديقًا بوعد الله لهم ﴿
وَتَسْلِيمًا ﴾ لقضائه وأمْره
.
• الآية 23، والآية 24: ﴿
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾ (وصبروا على البلاء والشدائد): ﴿
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ﴾ أي وَفَّى بعهده، فقاتل حتى استُشهِد (
والمقصود بهم: الصحابة الذين تخلفوا عن غزوة بدر، فحزنوا لِمَا فاتهم من الأجر، فعاهَدوا اللهَ لئن حضروا قتالًا مع رسوله صلى الله عليه وسلم ليُقاتلُنّ حتى الاستشهاد)، ﴿
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ﴾ أي ينتظر إحدى الحُسنَيَيْن: (النصر أو الشهادة)، ﴿
وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾: أي لم يُغيِّروا عهد الله ولم ينقضوه كما فعل المنافقون (الذين عاهدوا الله أنهم لا يُوَلُّونَ الأدبار، ثم عادوا إلى بيوتهم تاركينَ الرسول والمؤمنين في مواجهة الأعداء)
.
♦ واعلم أنّ كلمة (
تَبْدِيلًا) تشير إلى أنهم لم يُبَدِّلوا في مَوقفهم ولو تبديلًا قليلًا، بل إنهم ثَبَتوا على عهدهم وصبروا، حتى وَفَّوا به حق الوفاء، فهَنيئًا لهم الأجر والجزاء.
♦ وقد قَدَّرَ سبحانه حدوث تلك الأحداث - من الوفاء والغدر والصبر واليأس - ﴿
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ ﴾ وهم المؤمنون،
إذ يَجزيهم الجَنَّة ﴿
بِصِدْقِهِمْ ﴾ أي بسبب صِدقهم في إيمانهم وصبرهم على البلاء، ﴿
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ ﴾ يعني إنْشاءَ تعذيبهم، بألَّا يوفقهم للتوبة النصوح قبل الموت فيموتوا على الكفر، فيدخلوا النار، ﴿
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ بأن يوفقهم للتوبة قبل الموت، ﴿
إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا ﴾ لذنوب التائبين، ﴿
رَحِيمًا ﴾ بهم، حيث جعل التوبة نجاةً لهم
.
• الآية 25، والآية 26، والآية 27: ﴿
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ ﴾: أي رَدَّ اللهُ أحزاب الكفر عن "المدينة" خائبينَ خاسرينَ مُغتاظين ﴿
لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ﴾ في الدنيا ولا في الآخرة، ﴿
وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ﴾ بإرسال الريح والملائكة على الأحزاب، ﴿
وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا ﴾ لا يُقْهَر، ﴿
عَزِيزًا ﴾ في انتقامه من أعدائه.
﴿
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ ﴾ يعني: وأنزل الله يهود بني قُرَيظة مِن حصونهم (عقوبةً لهم لإعانتهم للأحزاب على قتال المسلمين)﴿
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ﴾: أي ألقى في قلوب اليهود الخوف،
وبذلك مَكَّنكم أيها المؤمنون منهم، فـ ﴿
فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ﴾ ﴿
وَأَوْرَثَكُمْ ﴾ - أيها المؤمنون - ﴿
أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾ ﴿
وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤُوهَا ﴾ يعني: وأورثكم سبحانهأرضًا لم تتمكنوا مِن دخولها من قبل (لكثرة حصونها وحماية أهلها لها)، وهي أرض خَيبر (وذلك على الراجح من أقوال العلماء)، ﴿
وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾ لا يُعجزه شيء
.
• الآية 28، والآية 29: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ ﴾ اللاتي اجتمعنَ عليك، يَطلُبنَ منك زيادة النفقة، ولم يكن عندك ما تُوَسِّع به عليهنَّ: ﴿ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ﴾ - من لذيذ الطعام والشراب، وحُلِيِّ الزينة وغير ذلك -: ﴿ فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ ﴾ يعني أُعطيكنَّ شيئًا مما عندي منالدنيا (بقدر استطاعتي) ﴿ وَأُسَرِّحْكُنَّ ﴾ يعني: أطلِّقكن ﴿ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ أي أُفارقكُنَّ دونَ إيذاءٍ بالقول أو الفِعل، ﴿ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ﴾: يعني إن كنتنَّ تُرِدْنَ رضا الله ورضا رسوله والجنة: فاصبِرْنَ ولا تنظرنَ إلى ما عند غيركنَّ من النساء ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ ﴾ - اللاتي يُطِعنَ اللهَ ويُحسنونَ عِشرة رسوله -﴿ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ (وهو المقامات العالية مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة) (وقد اخترنَ اللهَ ورسوله وما أعدَّ اللهُ لهنَّ في الدارالآخرة، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم)، ولهذا أكرمهنَّ الله تعالى وأنزل على رسوله: ﴿ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ﴾ [الأحزاب: 52].
• الآية 30، والآية 31: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾ أي بمعصيةٍ ظاهرة (ومِن ذلك عدم طاعة الرسول الله صلى الله عليه وسلم أو سُوء خُلُق يَتأذى به): ﴿ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ أي عذابًا مُضاعَفًا على عذاب غَيركنَّ مِمَّن آذَينَ أزواجهنَّ (وذلك لمكانتكنَّ الرفيعة عند الناس، ولأنكنَّ قدوة لسائر النساء، فإنَّ صاحب العِلم والمنزلة العالية يُستقبَح منه الذنب أكثر من غيره، ويُضاعَف له العذاب عليه)، ﴿ وَكَانَ ذَلِكَ ﴾ - أي مضاعفة العذاب - ﴿ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾، ﴿ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ يعني: ومَن تُطِع منكنَّ اللهَ ورسوله (بفعل الأوامر وتَرْك النَواهي) ﴿ وَتَعْمَلْ صَالِحًا ﴾ من النوافل والخَيرات: ﴿ نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ ﴾ يعني نُعْطها جزاءَ عملها الصالح ضِعف ثواب غيرها من سائر النساء، ﴿ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ﴾ وهو الجنة، (وهذه بشارة بالجنة لنساء النبي، أمَّهات المؤمنين، اللاتي نزلتْ هذه الآيات بشأنهنَّ).
• الآية 32، والآية 33، والآية 34: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ - في الفضل والمنزلة - ولكنْ بشرط: ﴿ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ﴾: يعني إنْعملتنَّ بطاعة الله وابتعدتنَّ عن معاصيه، ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ﴾: أي لا تتحدثنَ مع غير المحارم بصوتٍ رقيق﴿ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾: أي حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض الشهوة الحرام، (وهذا أدب واجب على كل امرأة مؤمنة)، ﴿ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ يعني إذا اضطرتْ المرأة للحديث مع غير المحارم، فعليها أن تتحدث بصوت منخفض، أقرب إلى الغِلظة (ليس فيه رِقَّة)، ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ يعني: والْزَمْنَ بيوتكنَّ (فلا تخرجنَ منها إلا لحاجة)، ﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾: أي لا تُظهرنَ مَحاسنكن، كما كانيفعل نساء الجاهلية الأولى في الأزمنة السابقة على الإسلام، (وهذا خطاب للنساءالمؤمنات في كل عصر)، ﴿ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ ﴾ بأركانها وفي أوقاتها،﴿ وَآتِينَ الزَّكَاةَ ﴾ لمُستحِقِّيها، ﴿ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ في كل أمْرٍ ونهي، ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ ﴾ بهذه الوصايا التي وصاكنَّ بها ﴿ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ﴾ أي ليُبعد عنكنَّ الأذى والسوء والشر يا أهل بيتالنبي (وهم زوجاته عليه الصلاة والسلام وذريته) ﴿ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ يعني: وليُطهِّر نفوسكم وقلوبكم غايةالطهارة،﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ﴾: أي اذكُرنَ ما يُقرأ في بيوتكنَّ من القرآن وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، واعملنَبه، واقدُرْنه حقَّ قَدْره، فهو من نِعَم الله عليكنَّ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا ﴾ بكُنَّ؛ إذ جعلكنَّ في البيوت التي يُقرأ فيها القرآن والسُنَّة، ﴿ خَبِيرًا ﴾ بكُنَّ،حيثُ اختاركنَّ أزواجًا لرسوله.
• الآية 35: ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ﴾ (وهم المُنقادون والمُنقادات لأوامر ربهم)، ﴿ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ (وهم المُصَدِّقونَ العاملونَ بشرع الله تعالى)، ﴿ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ ﴾ (وهم المُطيعون والمُطيعاتلله ورسوله)، ﴿ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ ﴾ في أقوالهم وأفعالهم ونيَّاتهم وتوبتهم، ﴿ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ ﴾ عن المعاصيوعلى الطاعات، وعلى ما يُصيبهم مِن مِحَنٍ وبَلاءٍ، لتكفير ذنوبهم أو رفع درجاتهم، ﴿ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ ﴾ (وهم الخائفون والخائفات من عذاب ربهم)،﴿ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ ﴾ بإخراج الزكاة المفروضة والصدقات المُستحَبَّة، ﴿ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ ﴾ في الفرض والنَّفْل، ﴿ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ ﴾ ﴿ وَالْحَافِظَاتِ ﴾ لفروجهنَّ (عن الزنى ومُقدِّماته، وعن كشف العورات)، ﴿ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ ﴾ (بقلوبهم وألسنتهم) في غالب أوقاتهم: ﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ ﴾ أي لهؤلاء - المذكور صفاتهم - ﴿ مَغْفِرَةً ﴾ لذنوبهم ﴿ وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ وهو الجنة.
• الآية 36: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا ﴾ يعني إذا حَكَمَ الله ورسوله فيهم حُكمًا ﴿ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ أي: ما كانَ لهم أن يُخالفوا أمْرَ ربهم ورسوله (بأنيختاروا غير الذي حُكِمَ فيهم)، (ومِن ذلك قول بعض الفتيات إذا أُمِرْنَ بالحجاب: سوف أرتدي الحجاب عندما أقتنع)!! تقتنعينَ بماذا؟!، تقتنعينَ بأمر الله تعالى؟! ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ أي بَعُدَ عن طريق الصواببُعْدًا ظاهرًا.
• الآية 37: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ﴾: أي اذكر أيها النبي حين قلتَ للذي أنعم الله عليه بالإسلام - وهو زيد بن حارثة الذي تبنَّاه النبي صلى الله عليه وسلم - ﴿ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ﴾ أيها النبي بالعِتق، وقلتَ له حين جاءك يشكو إليك زوجته "زينب بنت جحش": ﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾: يعني أَبْقِ زوجكولا تُطلِّقها ﴿ وَاتَّقِ اللَّهَ ﴾ يا زيد، ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾ يعني: وتُخفي يا محمد في نفسك ما أوحاهالله إليك (مِن أنّ زَيْدًا سيُطلقها وأنَّ الله سيُزَوِّجها لك)، والله تعالى مُظهِرٌ ما أخفيتَه في نفسك،﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ ﴾ أي تخاف أن يقول المنافقون: (تزوج محمد مُطلَّقة مُتبَنَّاه) ﴿ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾ ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا ﴾ يعني: فلمَّا قضى زيدٌ حاجته منها بالزواج، ولم يَبق له رغبة فيها، بل صارت كل رغبته أن يُفارقها، ثم طَلَّقها وانتهت عِدَّتها: ﴿ زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ أيها النبي ﴿ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ﴾: يعني حتى لا يكون على المؤمنينذنبٌ في أن يتزوجوا من زوجات مَن كانوا يتبنَّوْنهم ﴿ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ﴾ (أي بعد طلاقهنَّ وانتهاء عِدَّتهنَّ)، ولتكون أيها الرسول قدوة للمؤمنين في إبطال عادة الجاهلية (التي كانت تُحَرِّم الزواج بزوجة المُتبنَّى بعد طلاقها)، ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ يعني: إنَّ ما قضاه الله تعالى واقعٌ لا مَحالة.
♦ واعلم أن أمُّ المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تقول (زَوّجَني اللهُ تعالى من فوق سبع سماوات)، واعلم أيضًا أن زيد بن الحارثة رضي الله عنه هو الصحابي الوحيد المذكور في القرآن، في قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا)، ولَعَلَّ السبب في ذلك أنه لما تبَنَّاه النبي صلى الله عليه وسلم كان يُدعَى بـ (زيد بن محمد)، ثم عندما أبطل الله التبني أصبح يُدعَى بـ (زيد بن حارثة)، ونُزِعَ منه لقب (زيد بن محمد)، فذَكَرَ الله اسمه في القرآن جَبرًا لخاطره.
• الآية 38، والآية 39:﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ﴾ (والمقصود هنا: ما أحلَّه الله له منزواج امرأة مُتبنَّاه بعد طلاقها)، فقد كانت هذه ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ﴾ (إذ أباحَ الله ذلك للأنبياء الذين مضوا قبله)، ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ أي قدَرًا مُقدَّرًا لا بد من وقوعه.
♦ ثم أثنى سبحانه على هؤلاء الأنبياء الماضين بأنهم: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ ﴾ إلى الناس، ﴿ وَيَخْشَوْنَهُ ﴾ أي يخافون الله تعالى ﴿ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ﴾ (فلا يخافون لومة لائم عند تبليغهم لرسالة ربهم أو فِعل ما أَذِنَ لهم)، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾: أي كفى بهمحاسبًا لأنبياءه على تبليغهم لرسالاته، إذًا فلا يخافوا قول الناس عند تنفيذهم لِما أمَرَهم الله به.
• الآية 40: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ (لا زيد ولا غيره)، فلذلك لا يَحرُم عليه أن يتزوج مُطلَّقة زيد، لأنه ليس ابنه، ﴿ وَلَكِنْ ﴾ كانَ محمدٌ ﴿ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ ﴿ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ (إذ لا نُبُوَّةبعده إلى يوم القيامة)، فلو كان له ولدٌ ذَكَر: لكانَ من الممكن أن يكون نبيًّا بعده (كما كان أولاد إبراهيم وإسحق ويعقوب وداوود عليهم السلام)، ولكنْ لمَّا أراد الله أن يختم الرسالات برسالته صلى الله عليه وسلم لم يأذن ببقاء أحد من أولاده، بل توفاهم صغارًا، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ (فما أخبر به سبحانه هو الحق، وما حَكَمَ به هو العدل، وما شَرَعه لكم هو الخير، ألَا فسَلِّموا له في قضائه وحُكمه).
• من الآية 41 إلى الآية 44: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ بقلوبكموألسنتكم ﴿ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴾ في جميع أحوالكم، ﴿ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾: أي اشغلوا أوقاتكم بذكر الله فيالصباح والمساء، وبعد الصلوات المفروضات، وفي غير ذلك من الأوقات (بالأذكار والأدعية التيصَحَّتْ عن النبي صلى الله عليه وسلم).
♦ واعلم أن الله تعالى قد أمَرَ المؤمنين بذكره ذِكرًا كثيرًا، لأنه قد وصف المنافقين بأنهم ﴿ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾[النساء: 142]، فالذكر الكثير براءةٌ من النفاق، وهو خيرُ مُعِين على إصلاح القلوب وفِعل الطاعات، وكَفِّ اللسان عن الآثام، فإن العَبدَ لا بد له مِن أنْ يتكلم، فإنْ لم يتكلم بذِكر الله تعالى وذِكر أوامره: تكَلَّمَ بالأشياء المُحَرَّمَة (كالغِيبة والنَمِيمة والكَذِب والباطل)، فلا سبيلَ إلى السلامة من هذه المُحَرَّمات إلا بذكر رب الأرض والسماوات، فمَن عَوَّدَ لسانه ذِكرَ الله: صَانَ لسانَهُ عن اللغو والباطل.
♦ واعلم أنّ حقيقةُ الذِكر: أنْ تستشعرَ - وأنت تذكر الله - أن العبدَ الفقير يذكرُ الربَّ الغني، وأن العبدَ الذليل يذكرُ الربَّ العزيز، وأن العبدَ الضعيف يذكرُ الربَّ القوي، وأن العبد الذي لا يَملك لنفسِهِ شيئًا يذكرُ الربَّ القدير الذي بيده ملكوتُ كل شيء، فكأنَّ لسانَ حالِكَ يقول: (أسألُكَ بعِزِّك وذُلِّي، وقوتك وضعفي، وقُدرَتِكَ وعَجزي، وفقري إليك وغناك عني أنْ تعفوَ عني وترحمَني).
﴿ هُوَ ﴾ سبحانه ﴿ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ﴾ أي يَغفر لكم أيها المؤمنون، ﴿ وَمَلَائِكَتُهُ ﴾ تدعو لكم وتستغفر لكم ﴿ لِيُخْرِجَكُمْ ﴾ سبحانه ﴿ مِنَ الظُّلُمَاتِ ﴾ أي ظلمات الجهلوالضلال ﴿ إِلَى النُّورِ ﴾ أي نور العلم والإيمان، ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ في الدنيا والآخرة (فلايُعَذِّبهم ما داموا مطيعينَ لأمره مُخلصينَ له)، ﴿ تَحِيَّتُهُمْ ﴾ من الله تعالى ﴿ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ ﴾ (في الجنة) هي قوله لهم: ﴿ سَلَامٌ ﴾ (أي سَلِمْتم من الخوف والحزن والتعب، ومِن كل سُوء)﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ﴾ وهو الجنة.
• من الآية 45 إلى الآية 48: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا ﴾ على أمَّتك بإبلاغهم الرسالة ﴿ وَمُبَشِّرًا ﴾ للمؤمنين بالرحمة والجنة، ﴿ وَنَذِيرًا ﴾ للعُصاة والمُكَذِبين من النار﴿ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ ﴾ (يعني إلى توحيده وطاعته) ﴿ بِإِذْنِهِ ﴾ أي تفعل ذلك بأمره إياك وتكليفه لك، ﴿ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ إذ تُنير الطريق لمن اتَّبع هَدْيك(لأن الحق الذي جئتَ به ظاهرٌ كالشمس في إشراقها وإضاءتها، لا يَجحده إلامُعانِد)، ﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ﴾ أي ثوابًا عظيمًا (وهو روضاتالجنات)، ﴿ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ فيما يطلبونه منك ويقترحونه عليك مما يتناقض مع دَعْوتك ورسالتك ﴿ وَدَعْ أَذَاهُمْ ﴾: أي اترك أذاهم (فلا تهتم به، ولا تقابله بأذًى مثله)، بل اصبر عليهم حتى يأمرك ربك بما تقوم به نحوهم، ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ أي اعتمد على ربك وفَوِّضْ أمورك إليه، وثِق بنصره وحِفظه، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ فإنه يكفيك ما أهمَّك منأمور الدنيا والآخرة.
• الآية 49: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾ يعني إذا عقدتم عليهنَّ ﴿ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ﴾ أي مِن قبل أن تُجامعوهن: ﴿ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ﴾ يعني: فليس هناك عِدَّة تعُدُّونها عليهنَّ بعد هذا الطلاق، (إذ العِدَّة تكونُ للمدخول بها لمعرفة ما في الرَّحِم، وأما غير المدخول بها فمعلومٌ أن رَحِمها خالية)، فلها أن تتزوج بعد هذا الطلاق مباشرةً، (وإذا أراد المُطَلِّق أن يَرجع إليها، فيَلزَمه لذلك عقدٌ جديد)، ﴿ فَمَتِّعُوهُنَّ ﴾: أي أعطوهن شيئًا مِن مالكم يَتمتعن به (بحسب غِنَى المُطلِّق وفقره)، ليكون عِوَضًا عمَّا فاتهنَّ من الزواج، ودفعً الوَحشة الطلاق، وإزالةً للأحقاد)، ﴿ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾: أي خلُّوا سبيلهن مع السِتر الجميل (دونَ أن تذكروهنَّ بسوء).