أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل

#1

افتراضي يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤ

تقسير الشيخ الشعراوي
(يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ )٦-الحجرات


نداء خاص بالذين آمنوا، وهو النداء الثالث بعد { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ .. } [الحجرات: 1] وبعد { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ .. } [الحجرات: 2] وهنا { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ .. } [الحجرات: 6].
ونلاحظ أن النسق القرآني لم يجمع بين هذه الأمور الثلاثة في نداء واحد، ولم يستخدم أدوات العطف إنما خصَّ كل أمر منها بنداء خاص لمزيد التأكيد والاهتمام.
ففي وصية سيدنا لقمان لابنه قال: { يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13].
وقال: { يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ * وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ } [لقمان: 17-19].
إذن: خصّ مسألة العقيدة بنداء خاص لأهميتها، وجمع عمل الجوارح في نداء واحد لأنها على مستوى واحد من الأهمية في الدين.


إذن: نفهم من تكرار النداء بيأيها الذين آمنوا أنه يعطي أهمية خاصة لكل نداء. ومعنى { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ .. } [الحجرات: 6] الفاسق وصْف مأخوذ من قولنا فسقت الرطبة. يعني: خرجت عن قشرتها، وخروج الرطبة عن قشرتها يُعرِّضها للحشرات وللآفات الضارة.
كذلك المؤمن يُغلفه الإيمان ويحميه أنْ تصيبه آفات النفوس، فإذا فسق يعني: خرج عن حدود الإيمان وشذَّ عنه أصابته الأمراض المهلكة، لذلك قالوا عن الفاسق هو مرتكب كبيرة أو مجهول الحال.
فإذا جاءك النبأ أي الخبر من مثل هذا من فاسق فلا تُسلم له بما قال، إنما { فَتَبَيَّنُوۤاْ .. } [الحجرات: 6] يعني: تثبَّتوا من صحة هذا الخبر ومن صدَّقه.


قف حتى تتبين وجه الحقيقة فيما سمعتَ حتى يكون حكمك على الأمور واقعياً، ولا تأخذك العجلة والحمية فتقع في محظور { فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات: 6].
الحق سبحانه يأمرنا بالتثبت هنا لأن الإنسان ابن أغيار كثير التقلب، فربما اتصف بالصدق، لكن كذب هذه المرة أو اتصف بالكذب، لكن صدق هذه المرة، فالتثبت احتياط واجب، حتى يأتي الحكم والتصرف بعد ذلك موضوعياً ولا نقع في دائرة الظلم والتعدي على الآخرين.


تبيَّن من خبر الفاسق لعله يكون من الأشياء التي عصى الله فيها، لأن العصيان عنده سهلٌ، فلو صدَّقته ربما تصيب قوماً لا ذنبَ لهم.


{ بِجَهَالَةٍ .. } [الحجرات: 1] وأنت تجهل حقيقة الأمر، وعندها يصبح المصاب صاحبَ حق وأنت مُعتد فتندم على تعدِّيك وتجاوزك للصواب، تندم لأنك جعلتَ مَنْ أسأته صاحبَ حَقٍّ عليك.


وفرْق بين مَنْ يفعل الذنب بجهالة ومَنْ يفعله متعمداً، وبحسب موقف النفس البشرية من المعصية يكون قبول التوبة،




لذلك يُحدد الحق سبحانه شروط التوبة المقبولة، فيقول: { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [النساء: 17-18].
والندم على المعصية أول مراحل التوبة، لكن الأمر بالتثبُّت من خبر الفاسق، أهو وعظ ابتداءً أم له سَببٌ نزل القرآنُ من أجله؟


قالوا: بل له سببٌ وهو حادثة الوليد بن عقبة بن أبي معيط لما ولاَّه رسولُ الله جبايةَ أموال الزكاة من بني المصطلق.
فلما ذهب إليهم خرجوا جميعاً لمقابلته والاحتفاء به حين علموا أنه رسول رسول الله، لكنه خاف من جمعهم على هذه الصورة، وخشي أنْ ينالوه بشرٍّ خاصة وقد كان له دية قديمة عندهم من أيام الجاهلية.
ففرَّ عائداً إلى رسول الله وقال: يا رسول الله منعوني الزكاة، فرسولُ الله تثبَّت من الأمر وسألهم فقالوا: بل خرجنا فرحاً به يا رسول الله، ولو صدَّق رسولُ الله هذا الخبر لاعتبرهم مرتدين، وربما كان حدث ما لا تُحمد عقباه.


وروُي أن سيدنا رسول الله بلغه أن السيدة مارية القبطية أم إبراهيم لها ابنُ عم يزورها ويدخل عندها، فأغضبه ذلك وقال لعلي: خُذْ هذا السيف واذهب إليه فإنْ وجدته فاقتله. فقال: يا رسول الله أنا في أمرك أأقتله. أم يرى الشاهد ما لا يرى الغائب؟ انظر هنا إلى احتياط علي رضي الله عنه.
فلما ذهب وجده عند مارية فهمَّ بسيفه ليقتله، لكن الرجل أسرع إلى نخلة فصعد عليها بحيث لا يناله سيفُ علي، ثم ألقى بنفسه على الأرض وفتح بين ساقيه حتى بانت لعلي أماكن عورته فرآه علي أمسحاً، يعني: ليس له ما للرجال فكفَّ عنه.
وذهب إلى رسول الله وأخبره الخبر فقال: صدقتَ يا علي، يرى الشاهد ما لا يراه الغائب. ونفهم من هذه القصة أن الذي أخبر بها رسولَ الله فاسقٌ أراد الوقيعة والتشهير بأم إبراهيم.




التفاسير العظيمة

////////

شبهات حول حديث مارية القبطية والإفك عليها



عظّمت المدرسة العقلية دور العقل وغلت فيه ، حتى ألبسته ثوباً لا يتناسب مع حجمه ومداركه ، بل إنك لترى من تقديس أصحاب تلك المدرسة للعقل أنهم جعلوه حكما على نصوص الوحي ، وميزاناً مجرّداً لقبول الأحاديث وردها .

وكان من ثمرات هذه الطريقة العقيمة في التعامل مع الوحي ، أن قاموا برد أحاديث اتفق العلماء على صحتها ، بدعوى مصادمتها للبراهين العقلية، أو معارضتها للحقائق الشرعية.

وإذا استعرضنا تلك الأحاديث التي تناولوها بالطعن والتجريح، وجدنا منها حديثاً له علاقة مباشرة بحدث من أحداث السيرة النبوية ، وهو الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه و أحمد في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رجلاً كان يُتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ل علي : ( اذهب فاضرب عنقه ) ، فأتاه علي رضي الله عنه ، فإذا هو في ركيٌّ – أي بئر - يتبرّد فيها ، فقال له علي : أخرج ، فناوله يده فأخرجه ، فإذا هو مجبوب ليس له ذكر ، فكفّ عليٌّ عنه ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا رسول الله ، إنه لمجبوب ماله ذكر ) .

وللحديث لفظ آخر رواه البزار في مسنده عن علي رضي الله عنه قال : كثُر على مارية أم إبراهيم رضي الله عنها في قبطيٍّ ابن عم لها ، كان يزورها ويختلف إليها ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خذ هذا السيف فانطلق ، فإن وجدته عندها فاقتله ) ، قلت : يا رسول الله ، أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكة المحماة ؟ لا يثنيني شيء حتى أمضي لما أمرتني به ؟ أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ؟ ، فقال : ( بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ) ، فأقبلت متوشح السيف ، فوجدته عندها ، فاخترطّت السيف ، فلما رآني أقبلت نحوه تخوّف أنني أريده ، فأتى نخلة فرقى فيها ، ثم رمى بنفسه على قفاه ، ثم شغر برجله ، فإذا به أجبُّ أمسح ، ما له قليل ولا كثير فغمدت السيف ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته فقال : ( الحمد لله الذي يصرف عنّا أهل البيت ) .

لقد قال من طعن في الحديث : كيف يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله دون أن يتحقق عنده ذلك الأمر لا بوحي ولا بعلم صحيح ولا ببينة ولا بإقرار ،وهذا يخالف ما تقرّر في الشرع من وجوب التحرّي لاسيما في مثل هذه القضية الحساسة ؟ ثم كيف يأمر عليه الصلاة والسلام بقتله دون أن يسمع منه دفاعه عن نفسه ؟ وكيف يكون الحكم بالقتل ، والقضية متعلقة بالزنا ، وحد الزاني الرجم أو الجلد؟ ، وقد أظهر الله تعالى براءته بعد ذلك بيقين لا شك فيه ، وكيف يأمر عليه السلام بقتله ولا يأمر بقتلها والأمر بينه وبينها مشترك ؟ .

ثم قالوا : هل يسوغ أن نتقبل هذه الرواية التي تطعن في بيت النبوة ؟ ولماذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل صفوان بن المعطل في قضية عائشة رضي الله عنهما على الرغم من تشابه القصتين ؟ ثم إن هناك شبهة أن يكون المتن مضطرباً ، فإن بعض الروايات ذكرت أن مأبوراً - الغلام المذكور في القصّة - قد جاء خصياً من مصر ، وبعضها يثبت أنه اختصى بعد قدومه بلاد العرب ، وبعضها يحكي أن الذي ذهب لقتله هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وأخرى تنسب ذلك ل علي رضي الله عنه ، وبعضها يثبت أن عليا رضي الله عنه وجده عند بئر وأخرى تثبت أنه وجده فوق نخلة ، وبعضها يحكي أن مأبوراً هذا ابن عم للسيدة مارية رضي الله عنها ، وبعضها يشير إلى كونه ليس بذي قرابة لها ، ثم يقرر الإمام ابن الجوزي في " المنتظم " أنه أخ لها وأنه شيخ كبير.

وأخيراً قالوا : إن في الحديث مخالفة لحكم الملاعنة إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد شك في نسبة إبراهيم كما جاء في بعض الروايات .

والحق أن هذه الاعتراضات يشوبها سوء فهم لمعطيات هذه القصة ، والذي أدّى بدوره إلى مسارعتهم في تكذيبها والطعن في صحّتها ، ولو أنهم أعطوا لأنفسهم فرصة للتأمل والدراسة لما تعثّرت عقولهم في قبول هذا الحديث ولا قاموا بردّه .

وينبغي أن نتذكّر أولاً أن أصل القصة في صحيح مسلم ، وعليه فلا يمكن القدح في صحتها بمجرد الشك والظن ؛ لأننا نعلم دقة الإمام مسلم رحمه الله في اختيار أحاديث صحيحه ، ولأن الأصل عدم الطعن في أحاديث الصحيحين بلا بيّنة ، ولذلك يقول الإمام ابن القيم في معرض كلامه عن هذا الحديث : " ليس في إسناده من يتعلق عليه " .

وأما الجواب على ما استشكلوه ، فهو بما يأتي :

أولا : لو نظرنا إلى الحكم الذي أصدره النبي صلى الله عليه وسلم في حق هذا الرجل ، لوجدنا أنه ليس له علاقة بالزنا ، لأن هذا الحكم يختلف عن حد الزنا من نواحٍ عدة ، فهو يختلف معه في نوع العقوبة ، فحدّ الزنا في الشرع على الحرّ الرجم أو الجلد ، وعلى العبد النصف من ذلك ، ثم إن الزنا يتطلّب وجود أربعة شهود أو إقرار معتبر ، بخلاف الحكم الذي أصدره النبي صلى الله عليه وسلم هنا .

ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " ولم يأمر بإقامة حدّ الزنى ؛ لأن حدّ الزنى ليس هو ضرب الرقبة ، بل إن كان محصنا رُجم ، وإن كان غير محصن جُلد ، ولا يقام عليه الحدّ إلا بأربعة شهداء ، أو بالإقرار المعتبر " ، فعُلم بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله لسبب آخر .

وقد اختلف العلماء في ذلك السبب ، فقال بعضهم : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله لما انتهكه من حرمته ، ولما لحقه من الأذى في ذلك ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم علّق الحكم بقتله على وجوده عندها فقال : ( فإن وجدته عندها فاقتله ) ، وهذه بيّنة على تحقّق الإيذاء .

ومن الضروري أن نُشير إلى أن هذا الحكم له نظائره في السنة ، فقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دم امرأة يهودية كانت تشتمه كما رواه الإمام أبوداود ، وكذلك أهدر دم كعب بن الأشرف وأمر بقتله ، وعليه يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتله تعزيراً له ، وصدور مثل هذا الحكم يكون بمقتضى نبوّته أولا ، وإمامته ثانياً .

وفي قصّتنا التي بين أيدينا تبيّن أن الرجل مجبوب الذكر ، فكان ذلك قادحاً في صحّة البيّنة ، وعُلم أن المفسدة مأمونة منه فكفّ علي رضي الله عنه عن قتله .

هذا ، وقد ذكر العلماء وجهاً آخر ، وحاصله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُرد حقيقة الأمر بقتله ، وإنما أراد إظهار براءة الرجل للناس ، وإشاعة الحق وتجليته ، ولا أدلّ على ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام : : ( بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ) ، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلّم قصد حقيقة القتل ما جاز لعليٍّ رضي الله عنه أن يستبطيء تنفيذ الحكم .

وشبيهٌ بهذا ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كانت امرأتان معهما ابناهما ، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما ، فقالت صاحبتها : إنما ذهب بابنك ، وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك ، فتحاكمتا إلى داود عليه السلام ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان بن داود عليه السلام ، فأخبرتاه ، فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينهما ، فقالت الصغرى : لا تفعل يرحمك الله ، هو ابنها . فقضى به للصغرى ) ، فهنا لم يقصد نبي الله سليمان شقّ الصبي حقيقة ، ولكنه أراد إظهار الحق في هذه المسألة .

ويتبيّن من كل ما سبق أن الاعتراضات التي ذكروها من انعدام البيّنة والشهود ، واقتصار الحكم على الغلام دون الجارية ، وعدم الاستماع إلى دفاع الغلام عن نفسه ، هي اعتراضات ليست في محلّها ، لأنها كانت مبنيّة على اعتبار أن الحكم حد زنا ، والأمر خلاف ذلك .

ثانياً : أما الجواب على قولهم : " ولماذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل صفوان بن المعطل في قضية عائشة رضي الله عنهما على الرغم من تشابه القصتين ؟ " فيقال : هذا قياس مع الفارق ، إذ من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يبرّيء النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه في كلتا الحالتين ، و عائشة رضي الله عنها ، لم يكن منها ولد ، فكان نزول براءتها من السماء كافياً في تبرئتها من قالة السوء .

بينما يختلف الحال مع مارية رضي الله عنها ، فقد رُزق النبي صلى الله عليه وسلم منها بإبراهيم رضي الله عنه ، فكان من الحكمة الإلهية أن تكون تبرئتها بالمشاهدة لا بالغيب ، ولذلك قال علي رضي الله عنه كما في رواية البزار : " : يا رسول الله ، أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكة المحماة ؟ لا يثنيني شيء حتى أمضي لما أمرتني به ؟ أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ؟ ، فقال : ( بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ) .

ومن هنا وقف الناس على براءتها بأمر حسي مشاهد ، مناسب لمقتضيات القصّة وأطرافها.

ثالثا : وأما قولهم : " هل يسوغ أن نتقبل هذه الرواية التي تطعن في بيت النبوة ؟ " ، فإننا لا نسلّم بأن فيها مطعناً في بيت النبوة ، لأن مارية رضي الله عنها لا تدخل في جملة أهل بيته صلى الله عليه وسلم ، فإن أهل بيته لا يشمل إماءه كما هو واضح من سياق قوله تعالى : { وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } ( الأحزاب : 33 ) ، فالآية خطابٌ لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، كما أن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بينهم صفة القرابة النسبيّة به ، وهذا لا يتحقّق في إماء النبي صلى الله عليه وسلم .

وإذا كنّا قد قبلنا الروايات التي تتحدّث عن حادثة الإفك في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، مع أنها ولا شك من آل بيت النبوّة، فلماذا نرد الروايات الأخرى بحجج واهية لا تصمد أمام البحث العلميّ؟ مع أن الجامع بين كل هذه الروايات أنها قصص تتعلق بشخص النبي صلى الله عليه وسلم ومن حوله ، وقد ثبت بطلان ما اشتملت عليه تلك القصص من الإفك في حق أم المؤمنين عائشة أو أمة النبي صلى الله عليه وسلم مارية ، مما يدلّ على أن رد الحديث الذي بين أيدينا ليس له وجهٌ صحيح .

أما إن كان المقصود هو استنكار دخول الرجل على مارية ، فمثل هذا الاعتراض يردّه بيان الحديث لقرابتهما ، فمن الطبيعي أن تأنس له ويتعهّدها بالماء والحطب ، وقد أشارت بعض الروايات إلى ذلك ، فلا يكون مجرّد الدخول عليها أمراً مستقبحاً .





رابعا: وأما ما ذكروه من اضطراب المتن فليس بصحيح ، فالظاهر من الروايات أن المقوقس أهدى النبي صلى الله عليه وسلم غلاماً خصيّاً ، أما رواية اختصائه بعد قدومه لبلاد العرب فقد ذكرها الهيثمي في مجمعه وعزاها للطبراني في معجمه الكبير ، وذكرها الحافظ ابن حجر في الإصابة عنه ، وفيها هانيء بن المتوكل ، قال عنه الإمام الهيثمي : ضعيف ، وقال عنه الإمام أبو حاتم البستي : " كان يدخل عليه لما كبر فيجيب ، فكثرت المناكير في روايته ، فلا يجوز الاحتجاج به بحال " .

وأما ما يُحكى من أن الذي ذهب لقتل الرجل هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهي في الرواية السابقة التي تقدّم بيان ضعفها .

وبالنسبة إلى اختلاف الروايات في صلة قرابة هذا الغلام من مارية رضي الله عنها ، فالثابت كما في رواية البزار أنه ابن عمّها ، أما ما ذكره ابن سعد في الطبقات أنه أخوها ووصفه بكبر سنه ، فهي رواية مرسلة ، لأن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة تابعي من الطبقة الثالثة .

ويظلّ عندنا الاختلاف في المكان الذي وجد فيه علي رضي الله عنه الرجل ، فرواية الإمام مسلم تثبت أنه كان في البئر يتبرّد ، وهي أصح من الرواية التي ذكرها الإمام البزار ، وسواء أكان الرجل في البئر أم عند النخلة فإن القدر المتفق عليه بين الروايتين هو التأكد من براءة مارية ، وهذا هو القدر الذي يعنينا ، كما أن الاختلاف المذكور لا يتناول أصل القصة وصلبها، فلا يُعدّ اضطراباً قادحاً .

خامسا : وأما نسبتهم الشك للنبي صلى الله عليه وسلم في ثبوت نسبة إبراهيم إليه ، فهو مبنيٌّ على رواية مردودة جاءت في سنن البيهقي وعند الهيثمي رحمهما الله ، ونصّها : " لما ولد إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية جاريته كاد يقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم منه ، حتى أتاه جبريل عليه السلام فقال : السلام عليك أبا إبراهيم " .

سادسا : ما ذكروه من مخالفة الحديث لحكم الملاعنة فليس بصحيح ، فقد اتفق العلماء على أن حكم اللعان لا يكون إلا بين الزوج وزوجته ، واعتبروا اللعان من خصائص عقد النكاح ، يقول الشيخ زكريا بن محمد الأنصاري عند شرحه للمذهب الشافعي : " ( الشرط الثاني الزوجية ) فلا لعان لأجنبي .....ومن الأجنبي السيد مع أمته " .

وقال صاحب " الفواكه الدواني " المالكي : " واحترز بالزوجين عن السيد مع أمته " ، وعند الحنفية ذكر الإمام ابن نجيم الحنفي : " وأما الثالث – أي من شروط اللعان - فالزوجية بينهما – " ، وعند الحنابلة قال شارح " غاية المنتهى "في المذهب الحنبلي عند ذكره لشروط اللعان : " كونه بين زوجين ، ولو قبل دخول ، لقوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } ( النور : 4 ) ، ثم خص الأزواج من عموم هذه الآية بقوله سبحانه وتعالى : { والذين يرمون أزواجهم } ( النور : 6 ) ، فيبقى ما عداه على مقتضى العموم.... – إلى أن قال - فلا لعان بقذف أمته " .

كما نقل الإمام ابن عبد البر الإجماع على ذلك فقال : " وأجمع العلماء على أن لا لعان بين الأمة وسيدها " ، ثم إن هذا الأمر مبنيٌّ على ما سبق بيان ضعفه من أن النبي صلى الله عليه وسلم شكّ في نسب ابنه إبراهيم ، وهذا ما لا يصح بحال .

ونخلص مما سبق ، أن كل ما أوردوه من اعتراضات وتشكيكات في هذا الحديث لا يصمد أمام البحث العلمي النزيه ، وإنما هي أوهام عارية عن الصحة ، والله الموفق .


اسلام ويب





قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
( إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ)راتب النابلسي امانى يسرى القرآن الكريم
تفسير (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ امانى يسرى القرآن الكريم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِ عمر ابانا وعائشه امنا المنتدي الاسلامي العام


الساعة الآن 02:12 AM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل