أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل

#1

افتراضي وقفات تربوية مع سورة العاديات

إن من أعظم أسباب صلاح القلوب، وتزكية النفوس: الحرص على تدبر آيات القرآن الكريم؛ كما قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، فإن التدبر يورث اليقين، ويزيد الإيمان، وهو طريق إلى العمل بما في القرآن من المأمورات، والكف عن المنهيات، وهو سبيل إلى الاعتبار والاتعاظ بأمثاله وقصصه، وكل ذلك يزيد القلب تعظيمًا للقرآن الكريم، يقول ابن القيم رحمه الله: "ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر على معاني آياته".


ومن هذا المنطلق نقف هذه الوقفات مع سورة من قصار السور؛ ألا وهي: [سورة العاديات] ومع قلة عدد آياتها إلا أن فيها دروسًا وعبرًا لا تحصى!

• سورة العاديات: هي سورة مكية، وعدد آياتها إحدى عشرة آيةً، والغريب أنها تتحدَّث عن الجهاد!

اشتملت السورة على ثلاثة موضوعات؛ ولذلك يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
1- آيات القسم: مشهد الخيل وهي تجري في الجهاد في سبيل الله تعالى؛ فقد صور الله تعالى هذا المشهد بأدق التفاصيل.
2- جواب القسم: وهو جحود الإنسان وحبه الشديد للدنيا.
3- خاتمة السورة: وعيد وتذكير ببعثرة القبور، وتحصيل ما في الصدور.

أولًا: آيات القسم الأول:
بدأت السورة بأسلوب قسم؛ فالواو من حروف القسم، والعظيم سبحانه وتعالى لا يقسم إلا بالشيء العظيم، وهو سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته: المرسلات، الفجر، الضحى، الليل، الشمس؛ وفيها أطول قسم.

وهنا أقسم الله تعالى: ﴿ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ﴾ [العاديات: 1]؛ أي: الجاريات من العَدْو والجري؛ فذكر الوصف ولم يذكر الموصوف، وأشهر التفاسير أنها: الخيل حين تعْدُو بسرعة، والضبح: هو صوت أنفاسها في صدرها عند اشتداد عدوها.

تعلمنا هذه الآية: المسارعة والمسابقة في أبواب الخير؛ تقول لك: تعلم من الخيل في عدوها في سبيل الله الجري والمسارعة في الطاعات وأبواب الخير؛ كما قال تعالى في آيات كثيرة: ﴿ وَسَارِعُوا ﴾ [آل عمران: 133]، ﴿ سَابِقُوا ﴾ [الحديد: 21]، ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [البقرة: 148].

قوله: ﴿ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ﴾ [العاديات: 2]؛ أي: النار التي تخرج من أثر احتكاكهن بالحجارة خلال عدوها بسرعة؛ كما قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ﴾ [الواقعة: 71].

تعلمنا هذه الآية: القوة في كل شيء؛ ففيها دليل على قوة الخيل في الجري؛ لدرجة أن اصطكاك حافرها بالصخر يقدح شررًا، وفيه دليل على إقبال راكبها نحو العَدْو.

قوله: ﴿ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ﴾ [العاديات: 3]؛ أي: يغير أهلها على العدو في وقت الصباح، وهذا أمر أغلبي؛ أي غالبًا ما تكون الإغارة في الصباح، وهذا أحسن ما يكون إغارةً على العدو أن يكون في الصباح؛ لأن العدو غالبًا يكون في غفلة ونوم، وحتى لو استيقظ من الغارة فسوف يكون على كسل وعلى إعياء.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يُغِير على قوم في الليل؛ بل ينتظر، فإذا أصبح؛ إن سمع أذانًا كفَّ وإلا أغار.

تعلمنا هذه الآية: المسارعة والإقدام والمداومة؛ حيت تشير الآية إلى أن الخيل تجري نحو العدو الليل كله باستمرار ومداومة.

وفيه أيضًا: البركة في البكور.

قوله: ﴿ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ﴾ [العاديات: 4]؛ أي: فهيجن من الإثارة الغبار بذلك العدو، أو المكان الذي حلت فيه.

تعلمنا هذه الآية: أن يكون لك أثر في كل مكان لخدمة هذا الدين العظيم.

وهذا الغبار له فضل عند الله تعالى، وقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسهما النار)) ((ولا يجتمع غبار في سبيل الله مع نار جهنم))؛ [رواه البخاري].

قوله: ﴿ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ﴾ [العاديات: 5]؛ أي: فتوسطن براكبهن جموع العدو، وتوسطته؛ بسبب الغبار الذي هيجته، وهذا دليل على أنهم مقدمون على الأعداء، ودليل على شجاعتهم؛ فلم يقفوا على الأطراف؛ ليكون سهلًا للفرار!

ثانيًا: آيات القسم الثاني:
بعد الكلام عن معالي الأمور، وذروة سنام الإسلام، وحال الخيل في أرض الجهاد، وبعد أن أقسم بالأشياء العظيمة لتأكيد هذا الأمر؛ وهو:
قوله: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ﴾ [العاديات: 6]؛ أي: لكفور جحود لنعم ربه عليه، وهو جواب القسم، وهذا الجواب: أكد بثلاثة مؤكدات: واو القسم، وإن، اللام.

عن الحسن البصري: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ﴾ قال: "هو الكفور الذي يعد المصائب، وينسى نعم ربه".

تعلمنا هذه الآية: لا تكن الخيل أفضل منك أيها الإنسان الجحود! وهذا يدعو الإنسان: أن يسأل نفسه: ما هي أحواله من نعم الله تعالى عليه؟
• ما هي صفات الإنسان الكنود؟
1- لا ينظر إلا للمفقود؛ وهذه من أخطر أسباب التعاسة والشقاء: أن ينظر إلى ما ينقصه ولا ينظر إلى ما يملكه! وصدق القائل عن أحوال الناس في هذا الزمان: "الفقر في قلوبهم، ولكن في أيديهم ما يكفيهم".

نعم الله تعالى ليست محصورة في المال؛ فقد تعطى المال وتحرم غيره؛ عن يونس بن عبيد رحمه الله: أن رجلًا شكا إليه ضيق حاله، فقال له يونس: أيسرك أن لك ببصرك هذا الذي تبصر به مائة ألف درهم؟ قال الرجل: لا. قال: فبرجليك؟ قال: لا، قال: فذكره نعم الله عليه، فقال يونس: أرى عندك مئين ألوف، وأنت تشكو الحاجة!".

تأمل معي أخي الحبيب، وسل نفسك هذه الأسئلة؛ لتعرف كثرة نعم الله عليك: ألست اليوم أنت تقوم وحدك؟ وتجلس وحدك؟ وتمشي وحدك؟ وتقضي حوائجك وحدك؟ وتشرب كوب الماء وحدك دون مساعدة أحد؟ وتنظر وتسمع وتتكلم؟ وتنام مرتاحًا ولا تشعر بألم؟ هذه والله نعم حرم منها الكثير من الناس اليوم.

2- ومن صفات الكنود: أنه لا ينظر إلا لما في أيدي الناس، والتوجيه القرآني: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 131]، والتوجيه النبوي كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألَّا تزدروا نعمة الله عليكم)) وفي راوية: ((إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق؛ فلينظر إلى من هو أسفل منه))، قال عون بن عبدالله رحمه الله: "صحبت الأغنياء فلم أر أحدًا أكثر همًّا مني، أرى دابةً خيرًا من دابتي، وثوبًا خيرًا من ثوبي، وصحبت الفقراء فاسترحت".

3- ومن صفات الكنود: ينسب النعم لغير المنعم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب)).

4- ومن صفات الكنود: عدم شكر النعم، وقد قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].

قوله: ﴿ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ﴾ [العاديات: 7]؛ أي: وإن الإنسان على كنوده وجحوده يشهد على نفسه لظهور أثره عليه، وقيل: الضمير عائد على الله تعالى؛ لكن سياق الآيات يدل على أنه عائد على الإنسان الجحود.

يشهد على ذلك: بأقواله وأفعاله وما يخفيه في صدره؛ فهو كنود بلسانه: بكثرة التشكي وكثرة عبارات التسخط، وإعلان الحاجة والفلس دائمًا، وكنود بقلبة: بكثرة التسخط والاعتراض على قدر الله تعالى، وكنود بأفعاله: لا يظهر نعم الله عليه!

قوله: ﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾ [العاديات: 8]؛ أي: إن الإنسان لأجل حب المال لبخيل ممسك.

والخير: هو المال؛ كما قال تعالى: ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر: 20]، وسمي المال خيرًا؛ لأنه يفعل به الخير، أو يظن الناس فيه الخير.

ومن شدة حب المال: ربما يظلم، ويعتدي، ويسرق، وغيرها من صور الكسب الحرام!

ومن شدة حب المال: يبخل به، ويبخس الناس حقوقهم!

ولماذا جحد الإنسان نعم ربه؟ لأنه غفل عن الآخرة؛ ولذلك جاءت آيات القسم الثالث: وعيدًا وتذكيرًا لهذا الكنود ببعثرة القبور، وتحصيل ما في الصدور.

ثالثًا: آيات القسم الثالث:
بعد أن ذكر أحوال المجاهدين، ثم الذين يجحدون ويبخلون، جاء التهديد لهذا الكنود: ﴿ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ﴾ [العاديات: 9]؛ أي: هذا الإنسان إذا بعث من القبر للحساب والجزاء.

قوله: ﴿ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ﴾ [العاديات: 10]؛ أي: واستخرج وأظهر ما في صدره من خير أو شر، فكما أن الأجساد أخرجت، فكذلك ما في الصدور.

تعلمنا هذه الآية: منزلة القلوب، وأهمية الاعتناء بها؛ كما قال: ﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾ [الطارق: 9]؛ ففي الدنيا الأحكام على الظاهر، لكن في الآخرة المعاملة بما في القلوب.


قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ﴾ [العاديات: 11]؛ أي: عالم بما أعلنوا وما أسروا فيجازيهم عليه؛ فهذا وعد ووعيد؛ وعد لمن آمن وعمل صالحًا، ووعيد لمن كفر بالله وجحد نعمه! إنسان يقدم ويبذل، والآخر يجحد ويبخل، والله تعالى خبير بهم، ويعلم أحوالهم.

نسأل الله في عليائه أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلِّ اللهم على نبينا محمد.







رمضان صالح العجرمي



شبكة الالوكة





قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
(سورة الليل) لمسات بيانية في القرآن الكريم د.فاضل السامرائي امانى يسرى القرآن الكريم
اسماء سور القران ,تعرفى على آسمآء سور القرآن ربي رضاك والجنة القرآن الكريم
ملف عن العقيدة الإسلامية وأثرها في بناء الفرد والمجتمع النجمة الذهبية العقيدة الإسلامية
احصاءات قرآنية حبيبة أبوها القرآن الكريم
أسئلة وأجوبة عن القرآن الكريم ... ومعلومات #!# للجنة اسعى❤ القرآن الكريم


الساعة الآن 12:15 AM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل