القول في تأويل قوله تعالى "يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم "
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : ( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 1 ) )
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ : يُسَبِّحُ لِلَّهِ كُلُّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ ، وَكُلُّ مَا فِي الْأَرَضِينَ مِنْ خَلْقِهِ ، وَيُعَظِّمُهُ طَوْعًا وَكَرْهًا ، ( الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ) الَّذِي لَهُ مُلْكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَسُلْطَانُهُمَا ، النَّافِذُ أَمْرُهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا ، الْقُدُّوسُ : وَهُوَ الطَّاهِرُ مِنْ كُلِّ مَا يُضِيفُ إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ بِهِ ، وَيَصِفُونَهُ بِهِ مِمَّا لَيْسَ مِنْ صِفَاتِهِ الْمُبَارَكُ ( الْعَزِيزِ ) يَعْنِي الشَّدِيدَ فِي انْتِقَامِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ ( الْحَكِيمِ ) فِي تَدْبِيرِهِ خَلْقَهُ ، وَتَصْرِيفِهِ إِيَّاهُمْ فِيمَا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ مَصَالِحِهِمْ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 3 ) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 4 ) )
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ : وَهُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ، وَفِي آخَرِينَ [ ص: 374 ] مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ، فَ "آخَرُونَ" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلَى الْأُمِّيِّينَ .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الَّذِينَ عُنُوا بِقَوْلِهِ : ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ ) ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : عُنِيَ بِذَلِكَ الْعَجَمُ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : ثَنِي ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ لَيْثٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، فِي قَوْلِهِ : ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) قَالَ : هُمُ الْأَعَاجِمُ .
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ الْيَرْبُوعِيُّ ، قَالَ : ثَنَا فُضَيْلُ بْنُ طَلْحَةَ ، عَنْ لَيْثٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، فِي قَوْلِهِ : ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) قَالَ : هُمُ الْأَعَاجِمُ .
حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ ، قَالَ : ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ ، عَنْ لَيْثٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) قَالَ : الْأَعَاجِمُ .
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ ، قَالَ : ثَنَا عَاصِمٌ ، قَالَ : ثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ لَيْثٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) قَالَ : الْأَعَاجِمُ .
حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ مُجَاهِدٍ : ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) قَالَ : الْعَجَمُ .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، قَالَ : ثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ ، قَالَ : ثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَاصِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ لَهُ : أَمَا إِنَّ سُورَةَ الْجُمُعَةِ أُنْزِلَتْ فِينَا وَفِيكُمْ فِي قَتْلِكُمُ الْكَذَّابَ ، ثُمَّ قَرَأَ ( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) . . . حَتَّى بَلَغَ ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) قَالَ : فَأَنْتُمْ هُمْ .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : ثَنَا مِهْرَانُ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ لَيْثٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) قَالَ : الْأَعَاجِمُ .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ ، قَالَ : ثَنَا أَبُو عَامِرٍ ، قَالَ : ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ ، وَحَدَّثَنِي يُونُسُ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ ، جَمِيعًا [ ص: 375 ] عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : "كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ ، فَلَمَّا قَرَأَ : ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) قَالَ رَجُلٌ : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ : فَلَمْ يُرَاجِعْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَأَلَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، قَالَ : وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ ، فَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ فَقَالَ : "لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ " .
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، قَالَ : ثَنَا عَمِّي ، قَالَ : ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ الْمَدَنِيُّ ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ سَالِمٍ أَبي الْغَيْثِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : وَكُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ .
وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّمَا عُنِيَ بِذَلِكَ جَمِيعُ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَائِنًا مَنْ كَانَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو ، قَالَ : ثَنَا
أَبُو عَاصِمٍ ، قَالَ : ثَنَا
عِيسَى; وَحَدَّثَنِي
الْحَارِثُ ، قَالَ : ثَنَا
الْحَسَنُ ، قَالَ : ثَنَا
وَرْقَاءُ ، جَمِيعًا عَنِ
ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ
مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ : (
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) قَالَ : مِنْ رَدِفِ الْإِسْلَامِ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ .
حَدَّثَنِي
يُونُسُ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : قَالَ
ابْنُ زَيْدٍ ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : (
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) قَالَ : هَؤُلَاءِ كُلُّ مَنْ كَانَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، كُلُّ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ .
وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ : عُنِيَ بِذَلِكَ كُلُّ لَاحِقٍ لَحِقَ بِالَّذِينِ كَانُوا صَحِبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِسْلَامِهِمْ مِنْ أَيِّ الْأَجْنَاسِ; لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّ بِقَوْلِهِ : (
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) كُلَّ لَاحِقٍ بِهِمْ مِنْ آخَرِينَ ، وَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْهُمْ نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ ، فَكُلُّ لَاحِقٍ بِهِمْ فَهُوَ
[ ص: 376 ] مِنَ الْآخَرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا فِي عِدَادِ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ
وَقَوْلُهُ : (
لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) يَقُولُ : لَمْ يَجِيئُوا بَعْدُ وَسَيَجِيئُونَ .
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
حَدَّثَنِي
يُونُسُ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : قَالَ
ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ : ( لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) يَقُولُ : لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) يَقُولُ : وَاللَّهُ الْعَزِيزُ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ مِنْهُمْ ، الْحَكِيمُ فِي تَدْبِيرِهِ خَلْقَهُ .
وَقَوْلُهُ : ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ : هَذَا الَّذِي فَعَلَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنْ بِعْثَتِهِ فِي الْأُمِّيِّينَ مِنَ الْعَرَبِ ، وَفِي آخَرِينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ، وَيَفْعَلُ سَائِرَ مَا وَصَفَ ، فَضْلُ اللَّهِ ، تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى هَؤُلَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ ، يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ، يَقُولُ : يُؤْتِي فَضْلَهُ ذَلِكَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ ، لَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ مِمَّنْ حَرَمَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُ حَقًّا كَانَ لَهُ قَبْلَهُ وَلَا ظَلَمَهُ فِي صَرْفِهِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ ، وَلَكِنَّهُ عَلَى مَنْ هُوَ لَهُ أَهْلٌ ، فَأَوْدَعَهُ إِيَّاهُ ، وَجَعَلَهُ عِنْدَهُ .
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
حَدَّثَنَا
ابْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ ، قَالَ : ثَنَا
أَبُو عَاصِمٍ ، قَالَ : ثَنَا
عِيسَى ، عَنْ
شَبِيبٍ ، عَنْ
عِكْرِمَةَ ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ فِي : (
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ) قَالَ : الْفَضْلُ : الدِّينُ ( وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) يَقُولُ : وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ عَلَى عِبَادِهِ ، الْمُحْسِنِ مِنْهُمْ وَالْمُسِيءِ ، وَالَّذِينَ بَعَثَ فِيهِمُ الرَّسُولَ مِنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ ، الْعَظِيمُ الَّذِي يَقِلُّ فَضْلُ كُلِّ ذِي فَضْلٍ عِنْدَهُ .
القول في تأويل قوله تعالى : ( قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ( 6 ) ) [ ص: 379 ]
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لليهود ( قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس ) سواكم ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) في قيلكم إنكم أولياء لله من دون الناس ، فإن الله لا يعذب أولياءه ، بل يكرمهم وينعمهم ، وإن كنتم محقين فيما تقولون فتمنوا الموت لتستريحوا من كرب الدنيا وهمومها وغمومها ، وتصيروا إلى روح الجنان ونعيمها بالموت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( قل يا أيها الذين هادوا ) قل يا أيها الذين تابوا : لليهود ، قال موسى : ( إنا هدنا إليك ) إنا تبنا إليك .
القول في تأويل قوله تعالى : ( قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ( 8 ) )
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ( قل ) يا محمد لليهود ( إن الموت الذي تفرون منه ) فتكرهونه ، وتأبون أن تتمنوه ( فإنه ملاقيكم ) ونازل بكم ( ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة ) ثم يردكم ربكم من بعد [ ص: 380 ] مماتكم إلى عالم الغيب والشهادة ، عالم غيب السماوات والأرض; والشهادة : يعني وما شهد فظهر لرأي العين ، ولم يغب عن أبصار الناظرين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : تلا قتادة : ( ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة ) فقال : إن الله أذل ابن آدم بالموت ، لا أعلمه إلا رفعه ( فينبئكم بما كنتم تعملون ) يقول : فيخبركم حينئذ ما كنتم في الدنيا تعملون من الأعمال ، سيئها وحسنها ، لأنه محيط بجميعها ، ثم يجازيكم على ذلك المحسن بإحسانه ، والمسيء بما هو أهله .
القول في تأويل قوله تعالى : ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ( 10 ) ) [ ص: 385 ]
يقول تعالى ذكره : فإذا قضيت صلاة الجمعة يوم الجمعة ، فانتشروا في الأرض إن شئتم ، ذلك رخصة من الله لكم في ذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن مجاهد أنه قال : هي رخصة ، يعني قوله : ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ) .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ) قال : هذا إذن من الله ، فمن شاء خرج ، ومن شاء جلس .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أذن الله لهم إذا فرغوا من الصلاة ، ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ) فقد أحللته لكم .
وقوله : ( وابتغوا من فضل الله ) ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم في تأويل ذلك ما :
حدثني العباس بن أبي طالب ، قال : ثنا علي بن المعافى بن يعقوب الموصلي ، قال : ثنا أبو عامر الصائغ من الموصل ، عن أبي خلف ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ) قال : " ليس لطلب دنيا ، ولكن عيادة مريض ، وحضور جنازة ، وزيارة أخ في الله " .
وقد يحتمل قوله : ( وابتغوا من فضل الله ) أن يكون معنيا به : والتمسوا من فضل الله الذي بيده مفاتيح خزائنه لدنياكم وآخرتكم .
وقوله : ( واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) يقول : واذكروا الله بالحمد له ، والشكر على ما أنعم به عليكم من التوفيق لأداء فرائضه ، لتفلحوا ، [ ص: 386 ] فتدركوا طلباتكم عند ربكم ، وتصلوا إلى الخلد في جنانه .