دولة التلاوة
المتسابق علي عثمان، لما تيسر من سورة الحجرات
إذا كانت المنظومة العقديَّة - كالتوحيد، والنبوَّة، والمعاد - تُؤسِّسُ الدينَ والملَّة، فإنّ المنظومة القِيَميَّة تُؤسِّسُ المجتمعَ والأمَّةَ، مِن هنا كان الترابُط المتِين بين المنظومتَين من بداية نزول الوحي، حتى كأنّهما منظومة واحدة.
فالقرآن المكِّي يدمِجُ بين الإيمان بالله وبين احترام الإنسان ﴿أَرَءَیۡتَ ٱلَّذِی یُكَذِّبُ بِٱلدِّینِ ﴿١﴾ فَذَ ٰلِكَ ٱلَّذِی یَدُعُّ ٱلۡیَتِیمَ﴾ [الماعون: 1، 2]، ويجعل تحرير العبيد ومساعدة المساكين طريقًا للفوز وتجاوز العقبة ﴿فَلَا ٱقۡتَحَمَ ٱلۡعَقَبَةَ ﴿١١﴾ وَمَاۤ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡعَقَبَةُ ﴿١٢﴾ فَكُّ رَقَبَةٍ ﴿١٣﴾ أَوۡ إِطۡعَـٰمࣱ فِی یَوۡمࣲ ذِی مَسۡغَبَةࣲ ﴿١٤﴾ أَوۡ إِطۡعَـٰمࣱ فِی یَوۡمࣲ ذِی مَسۡغَبَةࣲ ﴿١٥﴾ أَوۡ مِسۡكِینࣰا ذَا مَتۡرَبَةࣲ﴾ [البلد: 11- 16]، ويتوعَّد بالويل لمن يأكل حقوق الآخرين ﴿وَیۡلࣱ لِّلۡمُطَفِّفِی نَ ﴿١﴾ ٱلَّذِینَ إِذَا ٱكۡتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ یَسۡتَوۡفُونَ ﴿٢﴾ وَإِذَا كَالُوهُمۡ أَو وَّزَنُوهُمۡ یُخۡسِرُونَ﴾ [المطففين: 1- 3]، ويُندِّد باضطهاد الأُنثَى ﴿وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُىِٕلَتۡ ﴿٨﴾ بِأَیِّ ذَنۢبࣲ قُتِلَتۡ﴾ [التكوير: 8، 9]، ويُنبِّه إلى مُراعاة المُعاقِين ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّىٰۤ ﴿١﴾ أَن جَاۤءَهُ ٱلۡأَعۡمَىٰ﴾ [عبس: 1، 2]، وغير ذلك كثيرٌ، وهذا كلُّه في القرآن المكِّي، وبذلك تسقُط نظريةُ أنّ القرآن المكِّي جاء لتأصيلِ العقيدة حَصرًا، فبناء الإنسان لا يقِلُّ أهميَّة وضرورة عن بناء الإيمان، وهل يحمِلُ الإيمانَ إلَّا الإنسان.
وقد مرَّت معنا سورٌ مكيَّة عنِيَت أشدَّ العناية بموضوع القِيَم، مثل: سورة الأنعام، وسورة النحل، وسورة الإسراء.
هذه السورة تكاد تكون مُخصَّصة بالكامل لموضوع القِيَم، خاصَّةً تلك التي تُسمَّى اليوم بـ (القِيَم العلائقيَّة)، وهي المعايِيرُ التي تحكُم علاقة الناس بعضهم ببعضٍ، ويمكن تلخيص هذه القِيَم وما يتَّصِل بها في النقاط الآتية:
أولًا: الأدب مع الوحي، وعدم التقدُّم عليه برأيٍ أو هوى نفسٍ وما إلى ذلك ﴿یــٰۤأیّها ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَیۡنَ یَدَیِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ﴾؛ إذ الإسلام إنّما هو الاستسلام لأمر الله ونَهيِه، وتلك حقيقة التقوى، فمن قدَّم عليهما ما يراه هو من تصوُّراتٍ وأفكارٍ وآراء فقد أساءَ الأدبَ مع الله، وخالف نهجَ المتقين.
ثانيًا: الأدب مع رسول الله ﷺ ﴿یــٰۤأیّها ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَرۡفَعُوۤاْ أَصۡوَ ٰتَكُم ۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِیِّ وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَـٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ ﴿٢﴾ إِنَّ ٱلَّذِینَ یَغُضُّونَ أَصۡوَ ٰتَهُم ۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ ٱمۡتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡ لِلتَّقۡوَىٰۚ لَهُم مَّغۡفِرَةࣱ وَأَجۡرٌ عَظِیمٌ ﴿٣﴾ إِنَّ ٱلَّذِینَ یُنَادُونَكَ مِن وَرَاۤءِ ٱلۡحُجُرَ ٰتِ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ ﴿٤﴾ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخۡرُجَ إِلَیۡهِمۡ لَكَانَ خَیۡرࣰا لَّهُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ﴾.
وقد جاء التحذير شديدًا بحقِّ مَن يرفع صوته بحضرة النبي الكريم ﷺ إلى حدِّ التهديد بإبطال العمل، وهذا لم يَرِد في القرآن إلا بحقِّ الكافرين المشركين، كقوله تعالى: ﴿لَىِٕنۡ أَشۡرَكۡتَ لَیَحۡبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65]، وكقوله تعالى: ﴿وَمَن یَكۡفُرۡ بِٱلۡإِیمَـٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ﴾ [المائدة: 5].
ثالثًا: التبيُّن من الأخبار وعدم التسرُّع في تصديقها، خاصَّة تلك التي تنبَنِي عليها مواقف وتصرُّفات قد يندم عليها صاحبها ﴿یــٰۤأیّها ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ إِن جَاۤءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإࣲ فَتَبَیَّنُوۤاْ أَن تُصِیبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَـٰلَةࣲ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَـٰدِمِینَ ﴿٦﴾ وَٱعۡلَمُوۤاْ أَنَّ فِیكُمۡ رَسُولَ ٱللَّهِۚ لَوۡ یُطِیعُكُمۡ فِی كَثِیرࣲ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ لَعَنِتُّمۡ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡإِیمَـٰنَ وَزَیَّنَهُۥ فِی قُلُوبِكُمۡ وَكَرَّهَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡیَانَۚ أُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلرَّ ٰشِدُون َ﴾.
رابعًا: الإصلاح بين الناس ﴿وَإِن طَاۤىِٕفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَیۡنَهُمَاۖ﴾.
خامسًا: ردُّ الباغي المُعتَدي، ونصرة المظلوم المُعتَدى عليه ﴿فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَـٰتِلُواْ ٱلَّتِی تَبۡغِی حَتَّىٰ تَفِیۤءَ إِلَىٰۤ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ﴾.
سادسًا: الحكم بالعدل بين المختصمين ﴿فَأَصۡلِحُواْ بَیۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوۤاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلمقۡسطِین.
سابعًا: ترسيخ معاني الأخوَّة الإيمانيَّة، وتساوي المؤمنين جميعًا في ذلك ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةࣱ فَأَصۡلِحُواْ بَیۡنَ أَخَوَیۡكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ﴾.
ثامنًا: وجوب احترام الإنسان وعدم السخريَّة منه، أو لمزه، أو نبزه بما يُسيء إليه ﴿یـٰۤـأیّها ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا یَسۡخَرۡ قَوۡمࣱ مِّن قَوۡمٍ عَسَىٰۤ أَن یَكُونُواْ خَیۡرࣰا مِّنۡهُمۡ وَلَا نِسَاۤءࣱ مِّن نِّسَاۤءٍ عَسَىٰۤ أَن یَكُنَّ خَیۡرࣰا مِّنۡهُنَّۖ وَلَا تَلۡمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمۡ وَلَا تَنَابَزُواْ بِٱلۡأَلۡقَـٰبِ ۖ بِئۡسَ ٱلِٱسۡمُ ٱلۡفُسُوقُ بَعۡدَ ٱلۡإِیمَـٰنِۚ وَمَن لَّمۡ یَتُبۡ فَأُوْلَــٰۤىِٕ كَ هُمُ ٱلظّلمون.
تاسعًا: حُسن الظنِّ بالمسلمين، وتجنُّب إساءة الظن؛ فالأصل في المؤمن الخير، والأصل في الإنسان براءة الذمة ﴿یـٰۤـأیّها ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمࣱۖ﴾.
عاشرًا: تحريم التجسُّس ﴿وَلَا تَجَسَّسُواْ﴾ ولا يأتي التجسُّس إلّا بعد إساءة الظنِّ، فيكون المُتجسِّس قد ارتكَبَ إثمَين في آنٍ واحدٍ.
حادي عشر: تحريم الغِيبة ﴿وَلَا یَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَیُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن یَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِیهِ مَیۡتࣰا فَكَرِهۡتُمُوهُ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابࣱ رَّحِیمࣱ﴾ والغِيبة: ذِكرُك أخاك بما يكرَه وإن كنت صادقًا.
ثاني عشر: اعتقاد المساواة بين الناس في أصل الخِلْقة؛ فكلّ الناس خُلِقوا من أبٍ واحدٍ وأمٍّ واحدةٍ، بمعنى أنّ البشريَّة كلّها إنّما هم أسرةٌ أو قبيلةٌ واحدةٌ ﴿یـٰۤـأیّها ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَرࣲ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُم ۡ شُعُوبࣰا وَقَبَاۤىِٕلَ﴾.
ثالث عشر: التعارُف بين الناس وعدم الانعزال أو التقاطع ﴿لتعارفوا﴾.
رابع عشر: وضع الميزان العدل للتنافس والتفاضل بين الناس ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾ والتقوى مجالٌ يقبلُ التنافس، فبإمكان أي شخصٍ أن يتقدَّم فيه أو يتأخَّر، بخلاف الجنس واللون والنوع.
خامس عشر: التواضع والطموح نحو الأفضل، والتنافس في مدارج الإيمان والطاعة، والاعتراف لأهل السبقِ بسبقهم، ولأهل الفضلِ بفضلهم ﴿۞ قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا یَدۡخُلِ ٱلۡإِیمَـٰنُ فِی قُلُوبِكُمۡۖ وَإِن تُطِیعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا یَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَـٰلِكُمۡ شَیۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمٌ﴾.
سادس عشر: اليقين والإيمان الصادق الذي لا تشُوبه شائبةُ الشكِّ والتردُّدِ، ولا يعقُبُه النكوث والنكوص ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ لَمۡ یَرۡتَابُواْ﴾.
سابع عشر: الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس عن عقيدةٍ وصدقٍ ﴿وَجَـٰهَدُواْ بِأَمۡوَ ٰلِه ِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِۚ أُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلصّـدقون
ثامن عشر: ضبط مصدر التلقي؛ فالدين لا يُؤخَذ بالأهواء ولا الآراء المجرَّدة، وإنّما يُؤخَذ من الوحي، وأمّا الاجتهاد فإنّما هو طريقٌ لفهم الوحي وتنزيله على الواقع، وإدراك غاياته وقواعده ومقاصده ﴿قُلۡ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِینِكُمۡ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ﴾.
تاسع عشر: الإخلاص في النيَّة وصدق التوجُّه باعتقاد حاجةِ الإنسان إلى التديُّن، لمعرفة طريق نجاته وسعادته في الدنيا والآخرة ﴿یَمُنُّونَ عَلَیۡكَ أَنۡ أَسۡلَمُواْۖ قُل لَّا تَمُنُّواْ عَلَیَّ إسلامكم فإذا كانت منَّة الإنسان على الإنسان مفسدة للصدقة والبر ﴿یــٰۤأیّها ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تُبۡطِلُواْ صَدَقَـٰتِكُم بِٱلۡمَنِّ وَٱلۡأَذَىٰ﴾ [البقرة: 264]. فكيف بالإنسان الذي يمُنُّ بإسلامه على الله؟
عشرون: الشكرُ لله بالاعتراف له سبحانه بالفضل والنعمة ﴿بَلِ ٱللَّهُ یَمُنُّ عَلَیۡكُمۡ أَنۡ هَدَىٰكُمۡ لِلۡإِیمَـٰنِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾.
(مجالس النور في تدبر القرآن الكريم وتفسيره)
يقع الكتاب في أربعة مجلدات من القطع المتوسط، في نحو ألفي صفحة، أصدرته دار نشر جامعة قطر عام 2020، وهو من تأليف الدكتور محمد عيّاش الكبيسي، بمشاركة عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية د. إبراهيم الأنصاري ود. محمد المصلح و د. وليد الحسيني؛ بهدف تقديم وقفات تدبرية لفهم القرآن الكريم وتفسيره بمنهج علمي تربوي جديد، يصلح لمخاطبة الإنسان المعاصر ويسهم في بناء شخصيته