أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل



https://adlat.net/showthread.php?t=389436
582 1
#1

افتراضي تفسير سورة النمل

تفسير  سورة النمل





الآية 1، والآية 2، والآية 3: ﴿ طس ﴾ سَبَقَ الكلام عن الحروف المُقطَّعة في أول سورة البقرة، واعلم أن هذه الحروف تُقرأ هكذا: (طا سين)، ﴿ تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ﴾؛ يعني: هذه هي آيات القرآن المُنَزَّلة على محمد صلى الله عليه وسلم، وهي آيات الكتاب الواضح في مَعانيهِ وأدلته، وحلاله وحرامه، وقد نزلت هذه الآيات لتكون ﴿ هُدًى ﴾؛ أي: مُرشِدةً إلى الحق، ﴿ وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ بالفلاح في الدنيا والفوز في الآخرة، وهؤلاء المؤمنون هم: ﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ﴾؛ أي: يُؤَدُّونها في أوقاتها بخشوعٍ واطمئنان، ﴿ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ لِمُستحِقيها، ﴿ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾؛ أي: يُصَدِّقون تصديقاً جازماً بالحياة الآخرة، وما فيها من الحساب والجزاء.

♦ واعلم أنَّ الواو التي بين كلمة ﴿ الْقُرْآَنِ ﴾ وبين كلمة ﴿ كِتَابٍ ﴾، تُسَمَّى: (عَطْف بَيان)؛ يعني: عَطْف توضيح، لِتُبَيِّن أنَّ القرآن هو نفسه الكتاب، وليس معناها أنَّ ﴿ الْكِتَاب ﴾ شيءٌ، وأنَّ ﴿ القرآن ﴾ شيءٌ آخر، فكأنَّ المعنى: (تلك آيات القرآن الذي هو هذا الكتاب المُبين)، (فالقرآن هو الكتاب، وقد جَمَعَ الله له بين الاسمين)، وهذا مِثل قول أحدهم: (هذا هو اللقاء الثالث والأخير)، يعني هذا هو اللقاء الثالث، وهو نفسه اللقاء الأخير.

الآية 4، والآية 5: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ ﴾؛ أي: حَسَّنَّا لهم أعمالهم السيئة فَفَعلوها؛ (عقوبةً لهم على تكذيبهم وعِنادهم)؛ ﴿ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴾؛ أي: يتخبَّطون في حيرتهم وضَلالهم؛ (لا يَعرفون مَعروفاً، ولا يُنكرون مُنكَرًا)، ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾؛ أي: لهم العذاب السيِّئ في الدنيا: (قتلًا وأَسْرًا وذُلًّا وهزيمةً)، ﴿ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ﴾؛ أي: هم أخْسَرُ الناسِ صَفَقةً؛ لأنهم استبدلوا النعيم المُقيم بالعذاب الأليم.

الآية 6: ﴿ وَإِنَّكَ ﴾ أيها الرسول ﴿ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ﴾؛ أي: تتلقَّى القرآن مِن عند الله الحكيم في خلقه وتدبيره، الذي أحاط بكل شيء علمًا.

الآية 7: ﴿ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ ﴾؛ أي: اذكر أيها الرسول قصة موسى عليه السلام، حين قال لزوجته - ومَن معها مِن خادم أو ولد - أثناء مَسيره ليلًا من "مَدْيَن" إلى "مصر" -: ﴿ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا ﴾؛ أي: أبصَرْتُ نارًا من بعيد (حصل لي بها بعض الأنس)، ﴿ سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ ﴾ يَدُلُّنا على الطريق، (وكانَ قد ضَلَّ الطريق إلى مصر بسبب ظُلمة الليل)، ﴿ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ؛ يعني: أو آتيكم منها بشُعلة نار ﴿ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾؛ أي: لتستدفئوا بها من البرد.

من الآية 8 إلى الآية 14: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ ﴾؛ يعني: فلمَّا وصل موسى إلى النَّار، ناداه الله تعالى، وأخبره: ﴿ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا؛ يعني: أخبره سبحانه أنه قدَّسَ هذا المكان وبارَكَه، وأنه بارَكَ مَن في النار؛ (وهو موسى عليه السلام) إذ كان يقف في البقعة المباركة التي ناداه الله منها، وأنه سبحانه بارَكَ مَن يقف حول النار مِنَ الملائكة، ﴿ وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ أي: تنزيهًا لله رب الخلائق عمَّا لا يليق به.

♦ وقال الله له: ﴿ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ ﴾ الذي لا يستحق العبادة غيري، ﴿ الْعَزِيزُ ﴾؛ أي: الغالب في انتقامي من أعدائي، ﴿ الْحَكِيمُ ﴾ في تدبير أمور خلقي، ﴿ وَأَلْقِ عَصَاكَ ﴾ - فألقاها موسى - ﴿ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ﴾؛ يعني: فلمَّا رآى عصاه تتحرك في خِفَّة كما تتحرك الحية السريعة المعروفة بالـ (جانِّ) ﴿ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾؛ أي: فَرّ هاربًا ولم يَرجع إليها، فطمأنه الله بقوله: ﴿ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ ﴾ من الحية، ولا مِن غيرها؛ ﴿ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ؛ يعني: إني لا يخاف عندي مَن أرسلتهم برسالتي؛ ﴿ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ﴾؛ يعني: لكن مَن تجاوَزَ حدَّه بفِعل ذنبٍ، ﴿ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ ﴾؛ أي: ثم تابَ مِن ذنبه (فبدَّل حُسْن التوبة بعد قبح الذنب)، وفَعَل الحسنات لتمحو السيئات؛ ﴿ فَإِنِّي غَفُورٌ ﴾ له ﴿ رَحِيمٌ ﴾ به، فلا ييئس من رحمة الله ومغفرته ﴿ وبهذا طمْأن اللهُ موسى عليه السلام، لأنه كان يشعر بالخوف من الذنب الذي فعله (عندما قتل المصري خطأً)، ﴿ وَأَدْخِلْ ﴾ يا موسى ﴿ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ﴾، ثم أخرِجها: ﴿ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ﴾ - رغم اسمرار لون جسمك - ﴿ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾؛ أي: من غير بَرَص ﴿ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ ﴾؛ أي: في جُملة تسع معجزات؛ وهي: (العصا، واليد، والطوفان، والجَراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، ونقص من الثمرات والأنفس)؛ لتأييدك في رسالتك ﴿ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ﴾ ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾؛ أي: كانوا قومًا خارجينَ عن أمْر الله، كافرينَ به.

﴿ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً ﴾؛ أي: واضحة - يَستدِل بها أصحاب البصائر على وحدانية اللهِ تعالى، وعلى صِدق نُبُوَّة موسى - ﴿ قَالُوا ﴾: ﴿ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾؛ أي: هذا سحرٌ واضحٌ، ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا ﴾؛ أي: كذَّبوا بالمعجزات التسع، وأنكروا بألسنتهم أن تكون من عند الله، ﴿ وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ﴾؛ يعني: رغم أن قلوبهم تَيَقَّنتْ أنها من عند الله تعالى، وذلك ﴿ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾؛ أي: اعتداءً على الحق وتكبُّرًا على الاعتراف به، ﴿ فَانْظُرْ ﴾ أيها الرسول ﴿ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾؛ أي: كيف كان مصير الذين كفروا بآيات الله، وأفسدوا في الأرض؟ لقد أغرقهم الله في البحر، وجعلهم عِبرةً لمن يَعتبر.

الآية 15: ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ﴾؛ يعني: أعطيناهما عِلماً فعَمِلا به، ﴿ وَقَالَا ﴾: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا ﴾ بهذا العلم ﴿ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ (وفي هذا دليل على فضل العلم، وشرف أهله).

الآية 16: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ ﴾ أباهُ ﴿ دَاوُودَ ﴾ في العلم والنُبُوّة والمُلك، ﴿ وَقَالَ ﴾ سليمان لقومه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ﴾؛ أي: عَلَّمَنا اللهُ كلام الطير، ﴿ وَأُوتِينَا ﴾؛ أي: أُعطانا اللهُ تعالى ﴿ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ يحتاجه الناس، ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾؛ أي: هذا هو الفضل الواضح مِن ربنا علينا.

الآية 17، والآية 18، والآية 19: ﴿ وَحُشِرَ ﴾؛ أي: جُمِعَ ﴿ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ ﴾ في مَسيرةٍ لهم، ﴿ فَهُمْ ﴾ - رغم كثرتهم - ﴿ يُوزَعُونَ ﴾؛ أي: يُسَاقونَ بنظام (إذ كان يقف على كل نوعٍ مَن يُنَظِّم صفوفهم)، وظلوا في مَسيرتهم ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ ﴾: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ﴾؛ ﴿ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ ﴾؛ أي: حتى لا يُهلككم ﴿ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ بوجودكم، فسمعها سليمان، وفَهِمَ كلامها؛ ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا ﴾؛ لأنّ اللهَ هداها إلى تحذير النمل، واستشعر نعمة الله عليه، ﴿ وَقَالَ ﴾ داعيًا ربه: ﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِي ﴾؛ أي: ألْهِمْني ووفقني ﴿ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ﴾، ﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ ﴾ عملًا ﴿ صَالِحًا تَرْضَاهُ ﴾ مني، ﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾؛ أي: في نعيم جنتك مع عبادك الصالحين.

الآية 20، والآية 21: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ﴾؛ أي: تَفَقّد سليمان حال الطير المُسَخَّرة له، وكان عنده هُدهُد متميز معروف، فلم يجده، ﴿ فَقَالَ ﴾: ﴿ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ﴾؟ أسَتَره ساترٌ عني؟ ﴿ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾ عن حضور مجلسي؟ فلمَّا عَلِم أنه غائب قال: ﴿ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ﴾؛ تأديبًا له على غيابه، ﴿ أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ ﴾؛ لأنه خالَفَ ما سُخِّر له، ﴿ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾؛ أي: بحُجّة ظاهرة، يُوَضِّح بها سبب غيابه.

من الآية 22 إلى الآية 26: ﴿ فَمَكَثَ ﴾ الهدهد زمنًا ﴿ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴾، ثم حضر، فعاتبه سليمان على غيابه وتخلُّفه، ﴿ فَقَالَ ﴾ له الهدهد: ﴿ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ؛ أي: عَلِمتُ ما لم تَعلمه، ﴿ وَجِئْتُكَ مِنْ ﴾ مدينة ﴿ سَبَإٍ ﴾ بـ "اليمن" ﴿ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾؛ أي: بخبر خطير الشأن، وأنا على يقينٍ منه، ﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ﴾؛ أي: تحكم أهل "سبأ"، ﴿ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ من أسباب الدنيا، ﴿ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾ تجلس عليه لإدارة مُلكها، ﴿ وَجَدْتُهَا ﴾ هي، ﴿ وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾، ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾؛ أي: حَسَّن لهم أعمالهم السيئة التي كانوا يعملونها؛ ﴿ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ﴾؛ أي: فصَرَفهم بذلك التزيين عن طريق توحيد الله تعالى؛ ﴿ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ إلى الحق.

♦ وقد حَسَّنَ لهم الشيطان ذلك مِن أجل ﴿ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ ﴾؛ أي: حتى لا يسجدوا للهِ ﴿ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ ﴾؛ أي: يُخرج المَخبوء المَستور عن الأنظار ﴿ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾؛ كالمطر الذي في السحاب، وكالنبات والمعادن التي في باطن الأرض، ﴿ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ ﴾ أيها الخلق في صدوركم، ﴿ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾؛ ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾؛ أي: الذي لا يستحق العبادة غيره، ﴿ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ الذي هو أعظم المخلوقات.


الآية 27 إلى الآية 31: ﴿ قَالَ ﴾ سليمان للهدهد: ﴿ سَنَنْظُرُ ﴾؛ أي: سنتأمل فيما جئتَنا به من الخبر عن أهل "سبأ": ﴿ أَصَدَقْتَ ﴾ في ذلك ﴿ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾؟ ثم كَتَبَ سليمانُ خطاباً لملكة سبأ، وقال للهدهد: ﴿ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ﴾؛ يعني: ألقِهِ إلى المَلكة ومَن معها، ﴿ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ؛ أي: تَنَحَّ عنهم قريبًا منهم (بحيث تَسمع كلامهم)، ﴿ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴾؛ أي: فتأمَّل ما يَتردد بينهم من الكلام بشأن هذا الكتاب.
♦ فذهب الهدهد، وألقى الكتاب إلى الملكة، فقرأته، وجمعتْ أشراف قومها، و﴿ قَالَتْ ﴾ لهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ﴾؛ يعني: إني وصل إليَّ كتابٌ عظيم القدر مِن شخصٍ عظيم الشأن، ﴿ إِنَّهُ مِنْ ﴾ المَلِك ﴿ سُلَيْمَانَ ﴾، ﴿ وَإِنَّهُ ﴾ مُفتتَح بـ ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾، ومَضمونُ كتابه: ﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ﴾؛ أي: لا تتكبروا عَمّا دَعَوتكم إليه، ﴿ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾؛ أي: مُنقادينَ لله بالوحدانية والطاعة.


الآية 32: ﴿ قَالَتْ ﴾ الملكة: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ﴾؛ يعني: أشيروا عليَّ في هذا الأمر، فـ﴿ مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ﴾؛ يعني: ما كنتُ لأفصِل في أمْرٍ إلا بحضوركم ومشورتكم.


الآية 33: ﴿ قَالُوا ﴾ لها: ﴿ نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ: يعني: نحن أصحاب قوة في العدد والسلاح، وأصحابُ شجاعة وشدة في الحرب، (وهذا تصريح منهم بأنهم مستعدُّون للدفاع عن مَملكتهم)، وقالوا لها: ﴿ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ ﴾؛ فأنتِ صاحبة القرار، ﴿ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴾؛ أي: ماذا تأمريننا به؟ فنحن سامعونَ لكِ، مُطيعونَ لأمرك.


الآية 34، والآية 35: ﴿ قَالَتْ ﴾ - مُحَذِّرةً لهم مِن مواجهة سليمان بالعداوة، ومُبيِّنة لهم سوء عاقبة القتال -: ﴿ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً ﴾ بجيوشهم ﴿ أَفْسَدُوهَا ﴾؛ أي: خَرَّبوها، ﴿ وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ﴾؛ (فيَقتلونهم ويأسرونهم، ويُهِينونهم)، ﴿ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾؛ يعني: وهذه هي عادتهم حتى يَخافهم الناس، ﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ ﴾؛ يعني: إلى سليمان وقومه ﴿ بِهَدِيَّةٍ ﴾ مشتملة على نفائس الأموال، ﴿ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ؛ أي: فمنتظرةٌ ما يَرجع به الرُسُل الذين أرسلتهم إليه، وعلى ضوء ذلك نتصرف، فإنْ أخَذَ سليمان الهدية فهو صاحب دنيا، وإنْ رَفَضَها فهو صاحب دِين، وعندئذٍ نُقَرِّر ما نفعله معه.


الآية 36، والآية 37، والآية 38: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ ﴾ رسولُ الملكة إلى ﴿ سُلَيْمَانَ ﴾ بالهديَّة ﴿ قَالَ ﴾ له - مستنكرًا عليه الهدية، ومتحدثًا بنعم الله عليه -: ﴿ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ ﴾ تُرضونني به؟! ﴿ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ ﴾؛ أي: فما أعطاني الله مِن النُبُوّة والمُلك خيرٌ مما أعطاكم، ﴿ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ﴾؛ يعني: بل أنتم الذين تفرحون بالهدية التي تُهدى إليكم؛ لأنكم أهل مُفاخَرة بالدنيا، وقال له سليمان: ﴿ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ ﴾؛ أي: ارجع إلى قومك ﴿ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا ﴾؛ أي: لا طاقة لهم بمقاومتها، ﴿ وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا ﴾؛ أي: مِن أرضهم ﴿ أَذِلَّةً ﴾؛ أي: خاضعين، ﴿ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾؛ أي: مُهانون (إن لم ينقادوا لدين الله وحده، ويتركوا عبادة مَن سواه).
♦ فلمّا ذهب رسول الملكة ﴿ قَالَ ﴾ سليمانُ مخاطبًا أشراف دولته، ومَن سَخَّرهم الله له من الجن والإنس: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا ﴾؛ أي: بعرش الملكة ﴿ قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾؟


الآية 39: ﴿ قَالَ عِفْريتٌ ﴾؛ أي: مارد قويٌّ ﴿ مِنَ الْجِنِّ ﴾: ﴿ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ ﴾؛ أي: قبل أن تقوم من مجلسك هذا، ﴿ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ ﴾؛ أي: قويٌّ على حَمْله، ﴿ أَمِينٌ ﴾ على ما فيه من الجواهر وغيرها، (فسبحان الله العظيم، إذا كانت هذه هي قدرة مخلوق، فكيف بقدرة خالقه سبحانه وتعالى؟!).
الآية 40: ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ﴾، (وقد قيل: إنّ هذا الرجل كان يَعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دُعِيَ به أجاب)، فقال لسليمان عليه السلام: ﴿ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾؛ أي: قبل ارتداد أجفانك إذا تحرَّكَتْ للنظر في شيء، فأذِنَ له سليمان، فدعا اللهَ تعالى فأتى بالعرش، ﴿ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ ﴾ سليمانُ لمن حوله: ﴿ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ﴾؛ أي: ليختبرني: ﴿ أَأَشْكُرُ ﴾ - اعترافًا بنعمته عليَّ - ﴿ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ بترك الشكر؟ ﴿ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾؛ يعني: فإنَّ ثواب ذلك الشكر يَرجع إليه في الآخرة، ﴿ وَمَنْ كَفَرَ ﴾؛ أي: جَحَدَ النعمة، وتَرَكَ الشكر: ﴿ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ ﴾ عن شُكره، ﴿ كَرِيمٌ ﴾؛ إذ يَعُمّ بخيره الشاكر والكافر في الدنيا، ثم يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة.


الآية 41: ﴿ قَالَ ﴾ سليمان لمن عنده: ﴿ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا ﴾؛ أي: غيِّروه إلى حالٍ تُنكِره إذا رأته، ﴿ نَنْظُرْ ﴾؛ أي: حتى نرى: ﴿ أَتَهْتَدِي ﴾ إلى معرفة عرشها، ﴿ أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ﴾؟


الآية 42، والآية 43: ﴿ فَلَمَّا جَاءَتْ ﴾ الملكة إلى سليمان ﴿ قِيلَ ﴾ لها: ﴿ أَهَكَذَا عَرْشُكِ ﴾؟ ﴿ قَالَتْ ﴾: ﴿ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾؛ يعني: إنه يُشبهه، (فظهر لسليمان أنها أصابت في جوابها بعد أن علمتْ قدرة الله تعالى، وصِدق نُبُوّة سليمان)، فقال سليمان في نفسه: ﴿ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ ﴾؛ أي: باللهِ تعالى وقدرته ﴿ مِنْ قَبْلِهَا ﴾، ﴿ وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾؛ أي: كنا مُنقادينَ لأمر الله، مُتَّبعينَ لدين الاسلام، ﴿ وَصَدَّهَا ﴾؛ أي: مَنَعَها عن عبادة الله وحده ﴿ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾؛ ﴿ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾؛ يعني: إنها كانت كافرة، ونشأتْ بين قوم كافرينَ، واستمرتْ على دينهم، وإلا فإنّ لها من الذكاء ما تعرف به الحق من الباطل، ولكنّ العقائد الباطلة تُذهب بصيرة القلب.


الآية 44: ﴿ قِيلَ لَهَا ﴾: ﴿ ادْخُلِي الصَّرْحَ ﴾؛ أي: ادخلي القصر، (وكانت ساحته مِن زجاجٍ تحته ماء)، ﴿ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ﴾؛ أي: ظنَّتْ أنه ماء ذات أمواج، ﴿ وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا ﴾ لتخوض الماء، فـ﴿ قَالَ ﴾ لها سليمان: ﴿ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ ﴾؛ يعني: إنه قصرٌ أملس من زجاجٍ صافٍ والماء تحته، فأدركتْ عظمة مُلك سليمان، و﴿ قَالَتْ ﴾: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ﴾ بما كنتُ عليه من الشرك، ﴿ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾؛ أي: دخلتُ منقادة - تابعة لسليمان - في دين رب العالمين.


الآية 45، والآية 46: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ﴾ وحده، فلا يوجد مَن يستحق العبادة غيره، فلمّا جاءهم صالحٌ بدعوة التوحيد: ﴿ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ﴾؛ أي: صار قومه فريقين: أحدهما مؤمن بدَعْوته، والآخر كافر بها، وكُلٌّ من الفريقين يَزعم أنه على الحق، فـ﴿ قَالَ ﴾ صالح عليه السلام للفريق الكافر: ﴿ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ﴾؛ يعني: لماذا تُسارعون بالكفر والأعمال السيئة التي تجلب لكم العذاب، وتؤخرون الإيمان والأعمال الحسنة التي تجلب لكم الرحمة؟، (ويُحتمَل أن يكون المعنى: لماذا تطالبونني بإنزال العذاب - الذي أنذرتُكم به - ليكون دليلًا لكم على نُبُوَّتي، بدلًا مِن أن تَطلبوا إنزال الرحمات والبركات وسعة الرزق، مع إنَّ ذلك سيكونُ دليلًا أيضًا على نُبُوَّتي - بعد أن أطلبها لكم مِن اللهِ تعالى - وأفضل لكم مِن طلب العذاب والهلاك؟!) ﴿ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾؛ يعني: هَلَّا تَطلبون مغفرة الله تعالى وتتوبون إليه حتى يرحمكم، (وفي هذا دليل على أن الاستغفار سبب من أسباب الرحمة).


الآية 47: ﴿ قَالُوا ﴾؛ أي: قال له الفريق الكافر: ﴿ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ ﴾؛ أي: تَشاءَمْنا بك وبمن دخل في دينك، فـ﴿ قَالَ ﴾ لهم صالح: ﴿ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ؛ يعني: إنَّ ما أصابكم مِن خيرٍ أو شر، هو مُقدَّر عليكم من الله تعالى، وليست القضية قضية تشاؤم، ﴿ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ﴾؛ أي: تُخْتَبرون بالسَرّاء والضَرّاء والخير والشر.


الآية 48، والآية 49: ﴿ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ ﴾؛ (أي: في مدينة صالح - وهي "الحِجْر" - الواقعة شمال غرب الجزيرة العربية)، فكانَ فيها ﴿ تِسْعَةُ رَهْطٍ ﴾؛ أي: تسعة رجال ﴿ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴾؛ أي: جمعوا بين الفساد وترْك الإصلاح، وهم الذين اشتركوا في ذبْح الناقة، فـ﴿ قَالُوا ﴾؛ أي: قال هؤلاء التسعة بعضهم لبعض - في اجتماعٍ خاص -: ﴿ تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ ﴾؛ أي: ليَحلف كل واحد منكم بالله: ﴿ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ﴾؛ أي: لنَأتينَّ صالحًا فجأةً في الليل، فنقتله ونقتل أتْباعه، ﴿ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ﴾؛ أي: لوليِّ الدم مِن أقرباء صالح - وهو الذي يطالب بالثأر له -: ﴿ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ ﴾؛ أي: ما حَضَرنا قتْلهم، ﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾، (وقد أرادوا قَتْل صالح وأتْباعه، مُعتقدينَ أنهم بذلك سوف يَمنعون وقوع العذاب الذي وَعَدَهم به بعد ثلاثة أيام مِن ذبْح الناقة).


الآية 50، والآية 51: ﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا؛ أي: دبَّروا هذه الحيلة الدنيئة؛ (حيثُ جاءوا إلى صالح وهو يصلي ليلًا تحت الجبل ليقتلوه)، ﴿ وَمَكَرْنَا مَكْرًا ﴾؛ أي: دَبَّرنا طريقة لنجاته وإهلاك الظالمين؛ (حيث أسقط اللهُ عليهم صخرة من الجبل فأهلكتْ التسعة كلهم)، وهكذا مَكَرَ اللهُ بهم ﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾؛ أي: وهُم لا يتوقعون أنه يُدَبِّر لهم طريقًا لهلاكهم، جزاءً لهم على كَيدهم بنَبيِّهم.
♦ ثم أهلك اللهُ القوم كلهم بالصيحة - وذلك بعد مرور ثلاثة أيام مِن ذبْح الناقة - كما وَعَدهم صالح، فماتوا في ديارهم، ﴿ فَانْظُرْ ﴾ أيها الرسول ﴿ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ ﴾؛ يعني: كيف كان مصير غَدْر هؤلاء الرجال بنَبيِّهم صالح ﴿ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ.
الآية 52، والآية 53: ﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً ﴾؛ أي: خالية ليس فيها أحد؛ إذ أهلكهم اللهُ ﴿ بِمَا ظَلَمُوا ﴾؛ أي: بسبب ظُلمهم لأنفسهم (بشِركهم وتكذيب نَبِيِّهم)، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾؛ أي: في إهلاك الرجال التسعة، وتدمير أهل ثمود المشركين ﴿ لَآَيَةً ﴾؛ أي: عِبرة ﴿ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾؛ أي: يَعلمون أنَّ هذه سُنَّتنا فيمَن يُكَذِّب رُسُلنا، فهؤلاء هم الذين يَعتبرون بآياتنا، ﴿ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾؛ أي: كانوا يتقون عذاب ربهم بالتوحيد والعمل الصالح.
♦ وفي هذه الآيات إثبات صفة المَكْر للهِ تعالى على النحو الذي يَليقُ بجلاله وكماله؛ لأنه مَكْرٌ بحق، وفي مقابلة مَكْر الماكرين، وقد كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: ((وامكُر لي، ولا تمْكُر عَلَيّ))؛ (انظر صحيح الترمذي: 355)، ومِمَّا يَجب أن يُعلَم أنَّ أفعالَ اللهِ تعالى لا تُشبه أفعال العباد، لأنّ ذاتَهُ سبحانه لا تُشبه ذَواتِهم.
الآية 54، والآية 55: ﴿ وَلُوطًا ﴾؛ أي: اذكر أيها الرسول خبر لوط عليه السلام ﴿ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ﴾: ﴿ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ﴾؛ يعني: أتفعلون هذه الفعلة المُنكَرة التي بَلغتْ نهاية القبح ﴿ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾؛ أي: تُبصرون قُبحها؟! (إذ كانوا يأتونها في أنْدِيَتهم علانيةً بلا سِترٍ أو حجاب)، ﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ ﴾؛ أي: تنكحون الرجال للشهوة عِوَضًا عن النساء؟! ﴿ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾؛ أي: تجهلونَ حقَّ الله عليكم، فلذلك خالفتم أمْره بهذه الفعلة القبيحة التي لم يَسبقكم بها أحد من العالمين.


الآية 56: ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ﴾ - بعد أن أنكر عليهم فِعلهم - ﴿ إِلَّا أَنْ قَالُوا ﴾ لبعضهم - سُخريةً واستهزاءً -: ﴿ أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ﴾؛ فـ﴿ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾؛ أي: يتنزهون عن فِعل الفواحش.


الآية 57: ﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ﴾ - المستجيبين لدعوته - من العذاب الذي سيَقع بقومه؛ ﴿ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾؛ أي: حَكَمنا عليها أن تكون من الباقين في العذاب؛ لأنها كانت عونًا لقومها على أفعالهم القبيحة.
الآية 58: ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا ﴾؛ أي: حجارة صَلبة شديدة الحرارة، نزلتْ عليهم كالمطر من السماء، ﴿ فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ﴾؛ أي: قَبُحَ مطر مَن أنذرهم رسولهم، وقامت عليهم الحُجّة، فلم يستجيبوا له.




الآية 59: ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ أي الثناء على اللهِ تعالى بصفاته الكاملة، والشكر له على نِعَمِهِ الظاهرة والباطنة، ﴿ وَسَلَامٌ ﴾ منه، وأمانٌ ﴿ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ﴾ أي الذين اختارهم لرسالته، ثم اسأل مُشرِكي قومك أيها الرسول: ﴿ آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ يعني: هل اللهُ الذي يَملك النفع والضر خيرٌ أم هذه الآلهة الباطلة التي يَعبدونها من دونه، والتي لا تملك لأنفسها ولا لعابدِيها نفعًا ولا ضرًا؟!

الآية 60: ﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ أي اسألهم: مَن خلق السموات والأرض؟، (وهذا التفسير باعتبار أنّ (مَن) هنا للاستفهام، ويُحتمَل أن تكون (مَن) بمعنى (الذي)، وعلى هذا يكون المعنى: (هل الأصنام التي لا تخلق ولا ترزق ولا تنفع ولا تضر خيرٌ أم الذي خلق السماوات والأرض) ﴿ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾ ﴿ فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ﴾ أي ذات منظر حَسَن يَسُرّ الناظرين، ﴿ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا ﴾ لولا أنّ الله أنزل عليكم الماء من السماء، وأخرج لكم الأشجار بقدرته،﴿ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ﴾ يعني: هل هناك معبود مع الله فعل هذه الأفعال حتى يُعبَد معه؟! ﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ أي يُساوون اللَهَ بغيره في العبادة والتعظيم والمحبة والخوف، (إذ معنى يَعدلون:أي يُساوون، فهي مأخوذة من العدل والمُساواة)، فالذين كفروا يعبدون مع اللهِ أصناماً ومخلوقاتٍ لم يُساووا اللهَ في شيءٍ من الكمال، بل هم فقراء عاجزونَ ناقصونَ مِن كل وجه.


♦ واعلم أنّ الله تعالى قال: ﴿ فَأَنْبَتْنَا ﴾ بضمير الْمُتكَلِّم الْجَمْعِي، بعد أن قال: ﴿ وَأَنْزَلَ لَكُمْ ﴾ بضمير الْواحد الْمُفْرَد - وهو ما يُعرَف في اللغة بأسلوب الالتفات -لِيجعل الأذهان تلتفت إِلَى أهمية ما هو آتٍ، فَتَتَنبَّه إلى أَنّ هذَا الإخراج البديع والصُنع المُتقَن هو مِن فِعل البديع الْخَلاَّق جَلَّ وعَلا، ولَمَّا كان الماءُ واحداً، والنباتُ جَمعاً كثيراً: ناسَبَ ذلك إفراد الفِعل ﴿ أَنْزَلَ ﴾، وجَمْع الفِعل: ﴿ أَنْبَتْنَا ﴾، ومعلومٌ أن الشخص إذا قال: ﴿ فَعَلْنَا ﴾ أَرادَ الإفَادة بتعظيم نَفسِهِ (إذا كانَ مقامُهُ أهلاً لذلك)، كما يقول المَلِك أو الأمير في خطابه: (قرَّرْنا نحن، أو أمَرْنا نحن بكذا وكذا).

الآية 61: ﴿ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا ﴾ يعني: مَن الذي جعل لكم الأرض مُستقَرًا لكم ﴿ وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا ﴾ لِشُربكم ومَنافعكم،﴿ وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ ﴾ أي جبالاً راسيةً لتثبيت الأرض ﴿ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ ﴾ - العذب والملح - ﴿ حَاجِزًا ﴾ حتى لا يُفسد أحدهما الآخر؟ ﴿ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ﴾ يعني: هل هناك معبود مع الله فعل هذه الأفعال حتى يُعبَد معه؟! ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ أي لا يعلمون قَدْر عظمة الله، وأنّ عبادته سبحانه هي الحق، وعبادة غيره باطلة، فهم يُشركون بربهم تقليدًا لآبائهم من غير علمٍ أو دليل.





الآية 62: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ﴾ يعني: مَن الذي يُجيب المكروب إذا دعاه ﴿ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ﴾ الذي نزل به، ﴿ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ﴾ أي جَعَلكم تَخلُفون مَن قبلكم؟ ﴿ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ﴾ يعني: هل هناك معبود مع الله فعل هذه الأفعال وأنعم عليكم بهذه النعم حتى تعبدوه معه؟! ﴿ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ أي قليلاً ما تتعظون، فلذلك أشركتم بالله غيره في عبادته.

الآية 63: ﴿ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ ﴾ يعني: مَن الذي يُرشدكم إذا ضللتم ﴿ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾؟﴿ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ يعني: ومَن الذي يُرسل الرياح الطيبة التي تبشر الخلق بقرب نزولرحمة الله (وهي المطر)، إذ تثيره الرياح بإذن الله تعالى ليَرحم به عباده، فيَسقيهم ويُحيي به أرضهم الميتة؟ ﴿ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ﴾ يعني: هل هناك معبود مع الله فعل هذه الأفعال وأنعم عليكم بهذه النعم حتى تعبدوه معه؟! ﴿ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.


الآية 64: ﴿ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ يعني: مَن الذي يُنشئ المخلوقات من العدم، ثم يُميتهم، ثم يُعيدهم كهيئتهم قبل أن يُميتهم؟ (فإذا كنتم تعترفون بأنّ الله هو الذي خلقكم من العدم، إذاً فاعلموا أنّ الذي ابتدأ خَلْقكم بهذه الصورة قادرٌ على إعادتكم بعد الموت، بل إنَّ إعادة الخَلق أهْوَنُ عليه سبحانه (لأنّ إعادة الشيء كما كان، أسهل من إيجاده أول مرة)، ﴿ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ بإنزال المطر، ﴿ وَالْأَرْضِ ﴾ بإنبات الزرع وإخراج المعادن؟﴿ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ﴾ يعني: هل هناك معبود مع الله فعل هذه الأفعال وأنعم عليكم بهذه النعم حتى تعبدوه معه؟! ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ﴾ على استحقاق غيره للعبادة ﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾.


الآية 65، والآية 66: ﴿ قُلْ ﴾ لهم أيها الرسول: ﴿ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ أي: لا أحد -مِمّن في السماوات الأرض - يَعلم ما انفرد الله بعلمه من الغيب (ومن ذلك موعد قيام الساعة) ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ: أي لا يعلم أحدٌ من الخلق متى سيَبعثهم الله مِن قبورهم أحياءً للحساب والجزاء؟ ﴿ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ ﴾ أي تكامَلَ عِلمهم في الآخرة، فأيقنوا بها عندما رأوا أهوالها (وذلك حين لا ينفعهم الإيمان والندم)، ﴿ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا ﴾ وهُم في الدنيا، ﴿ بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ﴾ يعني: بل عَمِيَتْ عنها بصائرهم، رغم قيام الحُجّة عليهم.

الآية 67، والآية 68: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾: ﴿ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ﴾ أي سنخرج مِن قبورنا أحياءً كهيئتنا هذه، بعد أن تَحَلَّلتْ عظامنا في تراب الأرض؟! ﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ ﴾يعني: لقد قيل هذا الكلام لآبائنا مِن قبل، فلم نَرَهُ حقيقةً، ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ أي: ما هذا الذي تتحدثون عنه من البعث والحياة الثانية إلا قصص السابقينَ التي لا حقيقةَ لها.

الآية 69: ﴿ قُلْ ﴾ أيها الرسول لهؤلاء المُنكِرين للبعث: ﴿ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ بأجسادكم وقلوبكم، وتأمَّلوا في الهالكينَ كعادٍ وثمودَ وفي ديارهم﴿ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ أي: كيف كان مصير المُكَذّبين للرسل؟ (فإنكم لن تجدوهم إلا مُعَذَّبين، قد فرَغَتْ ديارهم، وذهب عِزُّهم ومُلْكُهم، وزالَ نعيمهم وفخرهم، أليس في هذا أعظم دليل على صِدْق ما جاءت به الرُسُل؟).


الآية 70: ﴿ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾ أي لا تحزن يا محمد على إعراض المشركين عنك وتكذيبهم لك، ﴿ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ أي: لا يَضِقْ صدرك مِن كَيدهم لك، ولا تهتم به، فإنّ اللهَ ناصرك عليهم.

الآية 71، والآية 72: ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي: متى يحصل هذا العذاب الذي تَعِدُنا به يا محمد، إن كنت صادقاً أنت ومَن اتَّبعك؟، ﴿ قُلْ ﴾ لهم أيها الرسول: ﴿ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ ﴾ أي اقترب لكم ﴿ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ من العذاب، (وأوَّل عذاب نزل بهم: هزيمتهم يوم بدر وقَتْل زعمائهم، ثم القحط سبع سنين، ومَن مات منهم على الشِرك: فسوف يُعَذَّب في نار جهنم خالداً فيها أبداً).

الآية 73، والآية 74: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ﴾ بترك مُعاجلتهم بالعقوبة رغم مَعصيتهم وشِركهم، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ أي لا يَشكرونَ اللهَ على ذلك الإمهال بأن يتوبوا ويَنتهوا عَمّا هم فيه، بل يَزيدهم هذا الإمهال طغياناً ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ ﴾ أي يعلم ما تخفيه صدور خلقه من النيات والخواطر، ﴿ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ أي: ويعلم سبحانه ما يُظهرونه من الأقوال والأفعال، وسيُجازيهم على ذلك كله.

الآية 75: ﴿ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ ﴾ أي: ما مِن حادثةٍ غائبة (والمقصود: ما مِن شيءٍ غائب عن حَواسّ الخلق) ﴿ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ ﴿ إِلَّا ﴾ مُثبَتٌ ﴿ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ أي في كتابٍ واضح عند الله تعالى، أحاطَ به علمه وكَتَبَه قلمه (وهو اللوح المحفوظ).

الآية 76، والآية 77: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ أي يُخبرهم بالحق في أكثر الأشياء التي اختلفوا فيها، ﴿ وَإِنَّهُ لَهُدًى ﴾ يعني: إنّ هذا القرآن هادٍ من الضلال (إذ هو أعظم دليل على صِدق البعث والتوحيد والنُبُوّة) ﴿ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي نجاةٌ لهم من العذاب (فهو رحمةٌ لمن صدَّق به وعمل بهُداه).

الآية 78، والآية 79: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ﴾ أي يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل وغيرهم ﴿ بِحُكْمِهِ ﴾ يوم القيامة (فينتقم من الكاذبين المُعاندين، ويُثِيب الصادقين المحسنين) ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ ﴾ أي الغالب الذي لا يُرَدُّ قضاؤه، ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ بمن على الحق ومن على الباطل (فلذلك لن يكونَ حُكمه إلا عادلاً)، وبُناءً على عِزّته سبحانه وعِلمه: ﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ أي اعتمد عليه في كل أمورك، وثِق بنصره وحِفظه، فـ ﴿ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾ أي على الحق الواضح الذي لا شك فيه، والعاقبة الحَسَنة لك ولأتْباعك.


الآية 80، والآية 81: ﴿ إِنَّكَ ﴾ أيها الرسول ﴿ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾ أي لا تقدر على إسماع مَن طَبَعَ الله على قلوبهم فأماتها (بسبب تراكُم الشرك والمعاصي عليها)، ﴿ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ ﴾ يعني إنك لا تَقْدر على إسماع الصُمّ (الذين فقدوا حاسة السمع)، فكذلك أنت لا تقدر على هداية هؤلاء المشركين - إلا أن يشاء الله هدايتهم - لأنهم كالصمٌّ، حيثُ لا يسمعونك سماع تدبُّر وانتفاع، وخصوصًا ﴿ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ﴾ يعني إذا كانوا مُعرِضينَ عنك، ﴿ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ ﴾ يعني لن تهدي مَن أعماه الله عن الهدى والرشاد، بسبب الكِبر والعناد، ﴿ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا ﴾ أي لا يُمْكنك أن تُسمِع إلا مَن يُصَدِّق بآياتنا ﴿ فَهُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ أي مُستجيبونَ لِمَا دَعَوتَهم إليه، مُنقادونَ للحق، غير مُتَّبعينَ لأهوائهم وشهواتهم.




الآية 82: ﴿ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ﴾ يعني: إذا وَجَبَ العذاب عليهم - لاستمرارهم في المعاصي والطغيان، وإعراضهم عن شرع الله وحُكمه -: ﴿ أَخْرَجْنَا لَهُمْ ﴾ في آخر الزمان علامة من علامات الساعة الكبرى، وهي: ﴿ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ﴾ بكلامٍ يفهمونه، فتُخبرهم ﴿ أَنَّ النَّاسَ ﴾ - أي المُنكرين للبعث منهم - ﴿ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ﴾ أي كانوا لا يُصَدّقون بالقرآن ولا يعملون به (رغم وضوحة وقوة حُجَّته وخلوده إلى قيام الساعة).

الآية 83، والآية 84، والآية 85: ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا ﴾ أي اذكر أيها الرسول لقومك يوم القيامة، يوم نَجمع مِن كل أُمَّةٍ جماعةً ﴿ مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا ﴾ وأدلتنا الواضحة، ﴿ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ أي يُجمَعون، ثم يُساقون بنظامٍ إلى موقف الحساب ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوا ﴾ للعرض على ربهم ﴿ قَالَ ﴾ لهم: ﴿ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي ﴾ التي أنزلتُها على رُسُلي، وبالآيات الدالة على استحقاقي وحدي للعبادة وعلى قدرتي على البعث ﴿ وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا ﴾ أي لم تحيطوا عِلمًا ببُطلانها حتى تُعرضوا عنها وتُكَذِّبوا بها؟!، ﴿ أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾؟ ﴿ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا ﴾ أي وجب عليهم حُكم الله بعذابهم بسبب ظلمهم وتكذيبهم ﴿ فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ ﴾ أي لا يَنطقون بحُجِّةٍ يَدفعون بها العذاب عن أنفسهم.

الآية 86: ﴿ أَلَمْ يَرَوْا ﴾ أي هؤلاء المُكَذِّبون ﴿ أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ ﴾ أي يَنامون فيه ليستريحوا من التعب في طلب الرزق، ﴿ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ﴾ أي يُبصِرون فيه (للسعي في معاشهم)؟، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ أي في اختلاف حال الناس في الليل والنهار، وفي عناية الله تعالى بمصالح خلقه ﴿ لَآَيَاتٍ ﴾ تدل على أن الله هو المستحق وحده للعبادة، ثم خَصَّ سبحانه الذين ينتفعون بهذه الآيات بقوله: ﴿ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي يؤمنون بكمال قدرة الله تعالى ووحدانيَّته وعظيمِ نعمه.

الآية 87: ﴿ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ﴾ أي اذكر أيها الرسول يوم يَنفخ المَلَك في "القرن" (وهو المعروف بـ "البوق") ﴿ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ﴾ فزعًا شديدًا مِن هَوْل النفخة، ﴿ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ أن يحفظه من الفزع، ﴿ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴾ يعني: وكل مخلوقٍ يأتي إلى ربه طائعاً ذليلاً.

الآية 88: ﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً ﴾ أي تظنها واقفة مستقرة ﴿ وَهِيَ ﴾ في الحقيقة ﴿ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ﴾ أي تسير سَيرًا بطيئاً مِثل سَيْر السحاب بسبب دوران الأرض (إذ تدور الجبال مع الأرض أثناء دورانها، والناظر إليها يظنها ثابتة) (فسبحان مَن عَلَّمَ محمداً صلى الله عليه وسلم - النبي الأُمِّيّ - هذه الحقيقة)، انظروا ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ ﴿ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ (فكما أنه سبحانه يَعلم حركة هذه الجبال، وكما أنه أخبركم عن هذه الحركة الخفية ولم تتأكدوا منها إلا بأدق الأجهزة، فكذلك يعلم سبحانه كل فِعلٍ تفعلونه، وكل كلمةٍ تنطقونها، وكل فكرةٍ تخطر ببالكم، فيَنبغي عليكم أن تستشعروا مراقبة الله لكم، لأنه سبحانه سيُحاسبكم على أعمالكم).

الآية 89: ﴿ مَنْ جَاءَ ﴾ يوم القيامة ﴿ بِالْحَسَنَةِ ﴾ أي بتوحيد الله تعالى، وبالأعمال الصالحة (الخالصة لوجهه، والمُوافِقة لشَرعه): ﴿ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ﴾ إذ تُضاعَف له أعماله عشرة أضعاف، ﴿ وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ ﴾ أي هُم آمنونَ من الخوف يوم القيامة، إذ تتلقاهم الملائكة لتُبَشّرهم بالجنة.

الآية 90، والآية 91، والآية 92: ﴿ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ ﴾ أي بالشرك والمعاصي يوم القيامة: ﴿ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ﴾ أي: فجزاؤهم أن يَكُبَّهم الله على وجوههم في النار، ويُقال لهم - توبيخاً - وهم يُعَذّبون: ﴿ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾؟
♦ وقل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ ﴾ وهي "مكة"، فهو سبحانه ﴿ الَّذِي حَرَّمَهَا ﴾ أي حَرَّم على خلقه أن يَسفكوا فيها دمًا حرامًا، أو يظلموا فيها أحدًا، أو يصيدوا صيدها، أو يقطعوا شجرها، ﴿ وَلَهُ ﴾ سبحانه ﴿ كُلُّ شَيْءٍ﴾ - خلقاً وملكاً وأمراً - كما قال تعالى: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾، ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ أي المنقادينَ لأمره سبحانه، المُسارعينَ في طاعته، ﴿ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ ﴾ ليَهتدي به الناس، ﴿ فَمَنِ اهْتَدَى ﴾ بما فيه وعَمِلَ به: ﴿ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ﴾ لأنّ ثواب ذلك سيعود عليه وحده، ﴿ وَمَنْ ضَلَّ ﴾ عن الحق بعد وضوحه: ﴿ فَقُلْ ﴾ لهم أيها الرسول: ﴿ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ (الذين يُخَوِّفون قومهم عذاب ربهم)، وأما هداية القلوب فهي إلى الله وحده (إذ يهدي سبحانه مَن طلب الهداية بصِدق وسَعَى في تحصيل أسبابها، ولا يُضِلُّ سبحانه إلا مَن رغب في الضلال وسعى إليه وأحَبَّه).

الآية 93: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ أي الثناء على اللهِ تعالى بصفاته التي كلُّها كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، ﴿ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ ﴾ في أنفسكم وفي السماء والأرض ﴿ فَتَعْرِفُونَهَا ﴾ مَعرفةً تَدُلُّكم على الحق وتبيِّن لكم الباطل ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾، وسيُجازيكم على أعمالكم.




من سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرةمن (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي" ، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير. واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذاالأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.



رامى حنفى محمود
شبكة الألوكة




تفسير  سورة النمل









#2

افتراضي رد: تفسير سورة النمل

جزاكِ الله خيرا

إظهار التوقيع
توقيع : أم أمة الله


قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
القران الكريم كاملاً بصوت السديس .mp3 - استماع وتحميل Admin القرآن الكريم
القران الكريم كاملاً بصوت الحصري 2024 .mp3 - استماع وتحميل Admin القرآن الكريم
مصحف الشيخ ماهر المعيقلي كاملاً بجودة عالية mp3 عاشقة الفردوس القرآن الكريم
الإعجاز العلمي للقرآن في النمل قصرالاحلام الاعجاز العلمي
تحميل القرآن الكريم كاملاً لمشارى راشد mp3 حبيبة أبوها القرآن الكريم


الساعة الآن 12:28 AM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل