أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل

#1

افتراضي قصة أصحاب الجنة

{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } [القلم : ١٧]

فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَهِدَايَةٌ لِأَهْلِ الرَّشَادِ، وَزِيَادَةٌ فِي الْيَقِينِ وَالْإِيمَانِ.. فِيهَا ذِكْرُ الرُّسُلِ وَدَعَوَاتِهِمْ، وَأَنْبَاءُ الصَّالِحينَ وَعِبَادَاتِهِمْ، وَأَخْبَارُ الْعُصَاةِ وَعَاقِبَتِهِمْ، وَهِيَ المَوْعِظَةُ لِمَنْ أَرَادَ المَوْعِظَةَ، وَالْهِدَايَةَ لِمَنْ رَامَ الْهِدَايَةَ. وَكُلُّ قَصَصِ الْقُرْآنِ تَرْتَكِزُ عَلَى مَوَاضِعِ الْعِظَةِ وَالْعِبْرَةِ وَالْهِدَايَةِ لِلِاهْتِدَاءِ بِهَا، وَعَلَى مَوَاضِعِ الْإِثْمِ وَالْغَوَايَةِ لِاجْتِنَابِهَا، وَتُعْرِضُ عَنْ تَفْصِيلَاتٍ لَا فَائِدَةَ مِنْهَا كَمَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَمَاكِنِ وَنَحْوِهَا.
وَحَدِيثُنَا سَيَكُونُ عَنْ قِصَّةٍ قُرْآنِيَّةٍ تُعَالِجُ مَوْضُوعَ الْبَذْلِ وَالشُّحِّ، وَالْإِنْفَاقِ وَالْإِمْسَاكِ، وَجَزَاءِ الْعَطَاءِ وَعَاقِبَةِ الْبُخْلِ، جَاءَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ الَّتِي تَقَدَّمَ نُزُولُهَا فَكَانَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ وَقَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَأَثْنَاءَ الدَّعْوَةِ المَكِّيَّةِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ هَذَا المَوْضُوعِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ فَرَائِضِ الدِّينِ، وَأَهَمِّيَّتِهِ فِي شَرِيعَةِ اللَّـهِ -تَعَالَى-، وَأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ جَاءَ بِالْكَرَمِ وَالْبَذْلِ وَالْإِنْفَاقِ وَمُسَاعَدَةِ النَّاسِ فِي أَوَّلِ خِطَابَاتِهِ؛ لِيُنَزِّهَ أَتْبَاعَهُ عَنِ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ وَالْأَثَرَةِ وَمَحَبَّةِ الذَّاتِ.
كَمَا تُبَيِّنُ هَذِهِ الْقِصَّةُ أَنَّ كَثْرَةَ المَالِ ابْتِلَاءٌ يُوجِبُ الشُّكْرَ، وَأَنَّ كُفْرَ نِعْمَتِهِ سَبَبٌ لِزَوَالِهَا. وَكَانَتْ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ كَانَ أَحَدَ صَنَادِيدِ المُشْرِكِينَ، وَكِبَارِ قُرَيْشٍ، وَقَدْ أَنْعَمَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ بِالمَالِ وَالْوَلَدِ، فَقَابَلَ ذَلِكَ بِالْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، فَقَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِي وَصْفِهِ: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [القلم: 10 - 15]، فَأَخْبَرَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ أَنَّهُ كَفُورٌ جَحُودٌ، وَكَذَلِكَ كَانَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ كُلُّهُمْ؛ صَدًّا عَنْ دِينِ اللَّـهِ -تَعَالَى-، وَأَذِيَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ.


ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- عَقِبَ ذَلِكَ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ [سورة القلم: الآيات 17- 33]، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُمْ شَاكِرًا لِلَّـهِ -تَعَالَى-، مُؤَدِّيًا حَقَّهُ، يُخْرِجُ مِنْ ثَمَرَةِ جَنَّتِهِ حُقُوقَ الْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ، فَلَمَّا مَاتَ الْأَبُ، وَآلَتِ الْجَنَّةُ إِلَى أَوْلَادِهِ تَآمَرُوا بَيْنَهُمْ لِمَنْعِ المَسَاكِينِ حَقَّهُمْ، وَجَنْيِ الثَّمَرَةِ فِي الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ قَبْلَ مَجِيئِهِمْ (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ)، أَيْ: بَلَوْنَا قُرَيْشًا بِالرَّخَاءِ وَالْأَمْنِ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ) أَيْ: حَلَفُوا جَازِمِينَ وَلَمْ يُعَلِّقُوا يَمِينَهُمْ بِمَشِيئَةِ اللَّـهِ -تَعَالَى-، وَحَلَفُوا عَلَى أَنْ لَا يَسْتَثْنُوا شَيْئًا مِنَ الثَّمَرَةِ لِلْمَسَاكِينِ، بَلْ يَحُوزُونَهَا كُلَّهَا لَهُمْ.


لَقَدْ بَيَّتُوا مَا بَيَّتُوا وَنَامُوا، وَلَكِنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَا يَنَامُ، وَكَانَ تَدْبِيرُ اللَّـهِ -تَعَالَى- أَسْرَعَ مِنْ مَكْرِهِمْ، فَعَاجَلَتْهُمُ الْعُقُوبَةُ قَبْلَ أَنْ يُنَفِّذُوا خُطَّتَهُمْ، وَيَمْنَعُوا المَسَاكِينَ حَقَّهُمْ (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) وَالصَّرِيمُ يُطْلَقُ عَلَى اللَّيْلِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الرَّمَادِ الْأَسْوَدِ، وَالمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ تَحَوَّلَتْ مِنْ خَضْرَاءَ يَانِعَةٍ بِالثَّمَارِ إِلَى سَوْدَاءَ مُظْلِمَةٍ مَلْأَى بِالْحُطَامِ. لَقَدْ أَحْرَقَهَا طَائِفُ الرَّبِّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي اللَّيْلِ.


انْبَلَجَ الصُّبْحُ فَسَارُوا فِي أَوَّلِهِ مُبَكِّرِينَ يُذَكِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُوصِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُحَمِّسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِأَدَاءِ مُهِمَّتِهِمْ، وَتَنْفِيذِ مُؤَامَرَتِهِمْ! مُنْطَلِقِينَ يَتَحَدَّثُونَ فِي خُفُوتٍ، زِيَادَةً فِي إِحْكَامِ التَّدْبِيرِ، لِيَجْنُوا الثَّمَرَ كُلَّهُ لَهُمْ، وَيَحْرِمُوا مِنْهُ المَسَاكِينَ (فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) وَكَأَنَّمَا نَحْنُ الَّذِينَ نَسْمَعُ الْقُرْآنَ أَوْ نَقْرَؤُهُ نَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُهُ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ مِنْ أَمْرِهَا وَمَا حَلَّ بِهَا.. فَقَدْ عَلَّمَنَا رَبُّنَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنَّ الطَّائِفَ طَافَ عَلَيْهَا فِي الظَّلَامِ بِأَمْرِهِ –سُبْحَانَهُ- فَدَمَّرَهَا، وَأَذْهَبَ ثَمَرَهَا (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) أَيْ: غَدَوْا عَلَى إِمْسَاكٍ وَمَنْعٍ لِحَقِّ اللَّـهِ -تَعَالَى-، جَازِمِينَ بِقُدْرَتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ.


أَخَذُوا طَرِيقَهُمْ إِلَى جَنَّتِهِمْ حَتَّى بَلَغُوهَا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهَا كَمَا تَرَكُوهَا، وَلَمْ يَعْرِفُوهَا كَمَا عَهِدُوهَا؛ خُضْرَةً وَنَضَارَةً، وَجَمَالَ ثَمَرَةٍ وَطِيبَ رَائِحَةٍ.. رَأَوْا شَيْئًا آخَرَ فَجَزَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا الطَّرِيقَ إِلَى بُسْتَانِهِمْ (فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) وَلَكِنْ كَيْفَ يَضِلُّونَ عَنْهُ وَقَدْ عَرَفُوا طَرِيقَهُ وَاعْتَادُوهُ؟!






فَلَمَّا تَحَقَّقُوا أَنَّ الْبُسْتَانَ المُحْتَرِقَ المُدَمَّرَ هُوَ بُسْتَانُهُمْ؛ ثَابُوا إِلَى رُشْدِهِمْ، وَرَجَعَتْ إِلَيْهِمْ عُقُولُهُمْ قَالُوا: (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أَيْ: مِنْهَا، فَعَرَفُوا حِينَئِذٍ أَنَّ الْعُقُوبَةَ نَزَلَتْ بِهِمْ، وَكَانَتْ أَسْرَعَ إِلَى بُسْتَانِهِمْ مِنْهُمْ.


(قَالَ أَوْسَطُهُمْ) أَيْ: أَعْدَلُهُمْ، وَأَحْسَنُهُمْ طَرِيقَةً (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) أَيْ: تُنَزِّهُونَ اللهَ -تَعَالَى- عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ، ظَنُّكُمْ أَنَّ قُدْرَتَكُمْ مُسْتَقِلَّةٌ، فَلَوْلَا اسْتَثْنَيْتُمْ فَقُلْتُمْ: "إِنْ شَاءَ اللهُ"، وَجَعَلْتُمْ مَشِيئَتَكُمْ تَابِعَةً لِمَشِيئَةِ اللَّـهِ -تَعَالَى- لمَا جَرَى عَلَيْكُمْ مَا جَرَى.


فَقَالُوا: (سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) أَيِ: اسْتَدْرَكُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ بَعْدَ مَا وَقَعَ الْعَذَابُ عَلَى جَنَّتِهِمْ، وَهُوَ عَذَابٌ لَا يُرْفَعُ وَلَا يُدْفَعُ، وَلَكِنْ لَعَلَّ تَسْبِيحَهُمْ هَذَا، وَإِقْرَارَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالظُّلْمِ، يَنْفَعُهُمْ فِي تَخْفِيفِ الْإِثْمِ وَيَكُونُ تَوْبَةً لَهُمْ، وَلِهَذَا نَدِمُوا نَدَامَةً عَظِيمَةً.


وَكَمَا يَتَنَصَّلُ كُلُّ شَرِيكٍ مِنَ التَّبِعَةِ عِنْدَمَا تَسُوءُ الْعَاقِبَةُ، وَيَتَوَجَّهُ بِاللَّوْمِ إِلَى الْآخَرِينَ.. هَا هُمْ أُولَاءِ يَصْنَعُونَ (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ) وَمَا يَنْفَعُهُمُ التَّلَاوُمُ وَقَدْ ذَهَبَ بُسْتَانُهُمْ؟!


ثُمَّ هَا هُمْ أُولَاءِ يَتْرُكُونَ التَّلَاوُمَ لِيَعْتَرِفُوا جَمِيعًا بِالْخَطِيئَةِ أَمَامَ الْعَاقِبَةِ الرَّدِيئَةِ؛ عَسَى أَنْ يَغْفِرَ اللهُ -تَعَالَى- لَهُمْ، وَيُعَوِّضَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ الضَّائِعَةِ عَلَى مَذْبَحِ الْبَطَرِ وَالمَنْعِ وَالْكَيْدِ وَالتَّدْبِيرِ (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ) فَهُمْ رَجَوُا اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُبْدِلَهُمْ خَيْرًا مِنْهَا، وَوَعَدُوا أَنَّهُمْ سَيَرْغَبُونَ إِلَى اللَّـهِ -تَعَالَى-، وَيُلِحُّونَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنْ كَانُوا كَمَا قَالُوا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَبْدَلَهُمْ فِي الدُّنْيَا خَيْرًا مِنْهَا؛ لِأَنَّ مَنْ دَعَا اللهَ -تَعَالَى- صَادِقًا، وَرَغِبَ إِلَيْهِ وَرَجَاهُ، أَعْطَاهُ سُؤْلَهُ.


(كَذَلِكَ الْعَذَابُ) أَيِ: الْعَذَابُ الدُّنْيَوِيُّ لِمَنْ أَتَى بِأَسْبَابِ الْعَذَابِ أَنْ يَسْلُبَ اللهُ -تَعَالَى- الْعَبْدَ الشَّيْءَ الَّذِي طَغَى بِهِ وَبَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَأَنْ يُزِيلَهُ عَنْهُ، أَحْوَجَ مَا يَكُونُ إِلَيْهِ.


(وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ) مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ، أَوْجَبَ لَهُ الِانْزِجَارَ عَنْ كُلِّ سَبَبٍ يُوجِبُ الْعَذَابَ وَيُحِلُّ الْعِقَابَ.


وَإِذَا كَانَ هَذَا الْعَذَابُ الدُّنَيَوِيُّ قَدْ أَذْهَبَ بُسْتَانَهُمْ لَكِنْ بَقِيَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ، وَبَقِيَّةُ أَمْوَالِهمْ وَنَعَمِهِمْ؛ فَإِنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ يَذْهَبُ بِذَلِكَ كُلِّهِ، فَلَا تَبْقَى الْأَمْوَالُ وَلَا الْأَزْوَاجُ وَلَا الْأَوْلَادُ؛ فَإِنْ كَانُوا فِي الْجَنَّةِ وَهُمْ فِي النَّارِ حُرِمُوا رُؤْيَتَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي النَّارِ مَعَهُمْ تَضَاعَفَ الْعَذَابُ عَلَيْهِمْ بِرُؤْيَةِ أَحْبَابِهِمْ يُعَذَّبُونَ مِثْلَهُمْ، وَهُوَ عَذَابٌ حِسِّيٌّ عَلَى الْأَجْسَادِ، وَعَذَابٌ نَفْسِيٌّ عَلَى الْقُلُوبِ.


فَمَنْ عَاجَلَتْهُ عُقُوبَتُهُ فِي الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ بِاسْتِعْتَابِهِ وَتَوْبَتِهِ كَمَا تَابَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، وَمَنْ لَمْ يُعَاقَبْ فِي الدُّنْيَا مَعَ اسْتِكْبَارِهِ وَظُلْمِهِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنَ اللَّـهِ -تَعَالَى-، وَإِمْدَادٌ لَهُ فِي غَيِّهِ؛ لِيَكُونَ عَذَابُهُ فِي الْآخِرَةِ أَشَدَّ وَأَنْكَى.


وَقَدْ خُتِمَتْ سُورَةُ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِذِكْرِ هَذَا الِاسْتِدْرَاجِ؛ لِئَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ مَنْ لَمْ يُعَذَّبْ فِي الدُّنْيَا رَغْمَ اسْتِكْبَارِهِ وَطُغْيَانِهِ فَإِنَّمَا قَدْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهَذَا فَهْمٌ خَطَأٌ يَقَعُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَجَوَابُهُ فِي قَوْلِ اللَّـهِ -تَعَالَى-: (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [القلم: 44-45].


وَإِنَّ شَأْنَ المُكَذِّبِينَ، وَأَهْلِ الْأَرْضِ أَجْمَعِينَ، لَأَهْوَنُ وَأَصْغَرُ مِنْ أَنْ يُدَبِّرَ اللهُ لَهُمْ هَذِهِ التَّدَابِيرَ.. وَلَكِنَّهُ –سُبْحَانَهُ- يُحَذِّرُهُمْ نَفْسَهُ لِيُدْرِكُوا أَنْفُسَهُمْ قَبْلَ فَوَاتِ الْأَوَانِ. وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الْأَمَانَ الظَّاهِرَ الَّذِي يَدَعُهُ لَهُمْ هُوَ الْفَخُّ الَّذِي يَقَعُونَ فِيهِ وَهُمْ غَارُّونَ. وَأَنَّ إِمْهَالَهُمْ عَلَى الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْإِعْرَاضِ وَالضَّلَالِ هُوَ اسْتِدْرَاجٌ لَهُمْ إِلَى أَسْوَأ مَصِيرٍ. وَأَنَّهُ تَدْبِيرٌ مِنَ اللَّـهِ -تَعَالَى- لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً، وَيَأْتُوا إِلَى المَوْقِفِ مُثْقَلِينَ بِالذُّنُوبِ، مُسْتَحِقِّينَ لِلْخِزْيِ وَالرَّهَقِ وَالتَّعْذِيبِ.


وَلَيْسَ أَكْبَرُ مِنَ التَّحْذِيرِ، وَكَشْفِ الِاسْتِدْرَاجِ وَالتَّدْبِيرِ، عَدَلًا وَلَا رَحْمَةً. وَاللهُ –سُبْحَانَهُ- يُقَدِّمُ لِأَعْدَائِهِ وَأَعْدَاءِ دِينِهِ وَرَسُولِهِ عَدْلَهُ وَرَحْمَتَهُ فِي هَذَا التَّحْذِيرِ وَذَلِكَ النَّذِيرِ. وَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَا يَخْتَارُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، فَقَدْ كُشِفَ الْقِنَاعُ وَوَضَحَتِ الْأُمُورُ! إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ. وَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ. وَهُوَ هُنَا يَكْشِفُ عَنْ طَرِيقَتِهِ وَعَنْ سُنَّتِهِ الَّتِي قَدَّرَهَا بِمَشِيئَتِهِ.


نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ وَالِاعْتِبَارِ، وَأنْ يُجَنِّبَنَا طُرُقَ الِاسْتِكْبَارِ وَالْإِعْرَاضِ، وَأَنْ يَنْفَعَنَا بِقَصَصِ الْقُرْآنِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

كَمَا ذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- هَذِهِ الْقِصَّةَ الْعَظِيمَةَ عَنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، وَمَا جَرَى عَلَى بُسْتَانِهِمْ مِنَ الدَّمَارِ فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ ذَكَرَ فِي السُّنَّةِ قِصَّةَ صَاحِبِ بُسْتَانٍ شَاكِرٍ، وَكَيْفَ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدْ جَزَاهُ بِشُكْرِهِ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً عَظِيمًا؛ فَرَوَى أَبو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ المَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ المَاءَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ المَاءَ بِمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّـهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ - لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ - فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّـهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، لِاسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا، فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).



وَبَيْنَ شَاكِرِ النِّعْمَةِ وَكَافِرِهَا تَظْهَرُ كَرَامَةُ الْأَوَّلِ وَعُقُوبَةُ الثَّانِي؛ فَصَاحِبُ الْحَدِيقَةِ الَّذِي جَعَلَ ثُلُثَ خَرَاجِهَا لِلْمَسَاكِينِ سَيَّرَ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ سَحَابَةً تَسْقِي حَدِيقَتَهُ، وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ عُوقِبُوا بِحَرْقِ بُسْتَانِهِمْ؛ لِعَزْمِهِمْ عَلَى حِرْمَانِ المَسَاكِينِ حَقَّهُمْ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نَهَى عَنِ الْجِدَادِ بِاللَّيْلِ وَالْحَصَادِ بِاللَّيْلِ"، قَالَ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ: "أُرَاهُ مِنْ أَجْلِ المَسَاكِينِ" (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ).


وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى المَعْصِيَةِ قَدْ يُنْزِلُ الْعُقُوبَةَ، فَيَجِبُ عَلَى المُؤْمِنِ أَنْ لَا يَسْتَهِينَ بِالمَعْصِيَةِ مَهْمَا كَانَتْ؛ فَلُقْمَةٌ أَخْرَجَتِ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَالِامْتِنَاعُ عَنْ سَجْدَةٍ أَحَلَّ بِإِبْلِيسَ اللَّعْنَةَ.
وَفِيهَا: أَنَّ مَنْ وَقَعَ فِي مَعْصِيَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بِالمَوْتِ، وَأَنَّ مَا يَنْزِلُ مِنْ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا عَلَى المُؤْمِنِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ لِتَكْفِيرِ ذُنُوبِهِ، وَدَفْعِهِ إِلَى التَّوْبَةِ.
وَفِيهَا: أَنَّ الْعَاصِيَ مَهْمَا احْتَالَ لِفِعْلِ المَعْصِيَةِ، وَتَحَرَّزَ أَشَدَّ الِاحْتِرَازِ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، وَعَالِمٌ بِنِيَّتِهِ، وَيَأْتِيهِ بِالْعُقُوبَةِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّـهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّـهِ إِلَّا القَوْمُ الخَاسِرُونَ) [الأعراف: 99].



الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل


ملتقى الخطباء

قصة أصحاب الجنة


{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } [القلم : ١٧]

نيران النوايا الرديئة التي عصفت بقلوب أصحاب المزرعة ، أحرقت مزرعتهم .. علينا أن نتأكد من طهارة قلوبنا من نوايا حرمان المساكين .

الإحسان للآخرين من أسباب دوام النعم وزيادتها ، والإساءة من أسباب زوالها وحلول النقم . كم للمساكين فضل علينا بعد الله !!! حصّن راتبك بنية الإنفاق منه ، واعلم رب نية حرمان أضرمت ناراً .

حين نفكر في الشر يكون التردد شيئاً جميلاً قد ننجو بترددنا لأنه يضعف عزائم الشر ، فإذا عزمت على معصية افسح مساحات للتردد والتراجع والاستثناء . كن محسناً وتذكر قول الله تعالى في وصف المحسنين {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} ربما يتحرك الخير في قلبك فيعصمك الله وينجيك






أدوات الموضوع


قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
الطريق إلى الجنة أم أمة الله العقيدة الإسلامية
الجنه ما احلاها؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ابنة عائشه المنتدي الاسلامي العام
نعيم اهل الجنة وعذاب النار لؤلؤة الحَياة العقيدة الإسلامية
للرجال في الجنة الحور العين؟؟؟فماذا لنساء. رحيق الفردوس المنتدي الاسلامي العام
الأعمال التي بسببها ننال رحمة الله تعالى وندخل الجنة فلسطين السنة النبوية الشريفة


الساعة الآن 01:47 AM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل