التحذير من أكل المواريث
1- أهمية العدل في قسمة المواريث.
2- عقوبة من يأكل المواريث.
3- أسباب أكل المواريث.
الهدف من الخطبة:
التحذير من هذه الظاهرة الخطيرة التي انتشرت في مجتمعنا؛ مما كان له تأثير على الروابط الأسرية، وانتشار النزاعات والشقاقات.
مقدمة ومدخل للموضوع:
• أيها المسلمون عباد الله، إن من القضايا الخطيرة التي انتشرت واشتهرت في مجتمعاتنا، التي يشتكي منها كثير من الناس؛ ألَا وهي قضية: الظلم في الميراث، وحرمان بعض الوَرَثَةِ من حقوقهم في المواريث، أو التحايل على أكل المواريث؛ وذلك لأن الأموال وقسمتها محطُّ الأطماع في معظم الأحيان بين الكبار والصغار، والضعفاء والأقوياء؛ مما يتسبب في الكثير من الخلافات والنزاعات بين أبناء العائلة الواحدة، حتى بات أفراد الأسرة الواحدة أعداءً متناحرين.
• فكم من امرأة حُرمت من ميراثها؟
• وكم من يتامى أُكلت حقوقهم؟
• وكم من ضعفاء لم يجدوا لهم ناصرًا؟ ومما يزيد من الألم ويفجع القلب أن يكون الظلم من الإخوة للأخوات، والأعمام للعمَّات؛ ولله در الشاعر إذ يقول: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة = على النفس من وقع الحسام المهنَّدِ.
• والميراث: هو الحق المخلَّف عن الميت المنقول إلى الوارث؛ فهو المال الباقي من التركة بعد أداء الحقوق المتعلقة بها.
• والحقوق المتعلقة بالتركة أربعة؛ وهي: مؤنة تجهيز الميت، وقضاء الديون، وإخراج الوصايا، والباقي هو الإرث؛ فيُقسم بعد ذلك على ورثة الميت القسمة الشرعية بحسب ما ورد في نصوص القرآن الكريم، والسُّنة.
• والعدل في قسمة المواريث هو وصية الله تعالى لعباده؛ كما قال تعالى: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 11]، وعن جابر رضي الله عنه قال: ((جاءت امرأة سعد بن أبي الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع قُتل أبوهما معك يوم أُحد شهيدًا، وإن عمَّهما أخذ مالهما فلم يدَع لهما مالًا، ولا تنكحان إلا ولهما مال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقضي الله في ذلك؛ فنزلت آية الميراث: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ﴾ [النساء: 11]؛ الآية، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عمهما فقال: أعطِ ابنتَي سعد الثلثين، وأعطِ أمَّهما الثُّمُنَ، وما بقِيَ فهو لك))؛ [رواه الترمذي، وصححه الألباني]، وتأمل في ختام آيات المواريث؛ حيث إنها ختمت جميعًا بالوصية، وبصفة العلم؛ ففي الآية الأولى: ﴿ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 11]، وفي الآية الثانية: ﴿ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ [النساء: 12]، وفي الآية الثالثة: ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النساء: 176]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألحِقوا الفرائض بأهلها، فما بقِيَ فهو لأولَى رجل ذَكَرٍ))؛ [متفق عليه].
• ولأهمية العدل في قسمة المواريث؛ فإن الله تعالى هو الذي تولَّى قِسمتها بنفسه في كتابه مبينةً مفصَّلةً، ولم يتركه لأحد من خلقه، مهما كان عنده من الشهادات العلمية، أو كان ماهرًا في الحسابات؛ حتى لا يكون فيها مجال للآراء والأهواء، وسوَّاها بين الورثة على مقتضى العدل، والمصلحة، والمنفعة التي يعلمها؛ ولذلك تسمى: الفرائض؛ لأن الله تعالى فرضها على عباده، وألزمهم بالحكم بها.
• ولو تُرك تقدير الإرث إلى عقول الناس واختياراتهم، لحصل من الضرر ما الله به عليم؛ وذلك لنقص العقول وتفاوتها في تقدير الأمور، وكذلك لم يترك ذلك للميت نفسه؛ فقد يظن الميت بأحد ورثته خيرًا، فيعطيه المال كله، أو يظن به شرًّا، فيحرمه من المال كله، وقد يكون الحال خلاف ذلك؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 11].
• وكذلك جاء الحث على تعلم علم الفرائض؛ حتى يُعطى كل وارث حقَّه كاملًا؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا هريرة، تعلَّموا الفرائض وعلِّموها؛ فإنه نصف العلم، وهو يُنسى، وهو أول شيء يُنزع من أمتي))؛ [رواه ابن ماجه، وضعفه الألباني].
• الوقفة الثانية:
عقوبة من يأكل المواريث.
1- إن حرمان الورثة من الميراث لهو من الظلم العظيم الذي حرمه الله تعالى على نفسه، وحرمه على عباده؛ كما في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا؛ فلا تظالموا))؛ [رواه مسلم]، وتوعد الظالمين بالعذاب؛ فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42]، وقال تعالى: ﴿ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18].
2- وحرمان الورثة من الميراث: هو من التعدي لحدود الله تعالى، وانتهاك حرماته؛ فإن الله تعالى بعد أن بيَّن قِسمة المواريث قال: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ﴾ [النساء: 13]، التي قال عنها: ﴿ فَلَا تَعْتَدُوهَا ﴾ [البقرة: 229]؛ أي: لا تجاوزوها؛ ثم قال: ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [النساء: 14]؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "من لم يرضَ بقسم الله، ويتعدَّ ما قسم الله، ﴿ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [النساء: 14]".
3- وهو من البغي، ومن قطيعة الرحم، ولا شك أن هذا جرم خطير؛ فعن أبي بكرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من ذنب أجدرَ أن يعجِّل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة، من البغي، وقطيعة الرحم))؛ [صححه الألباني].
4- وهو صورة من صور أذية المؤمنين والمؤمنات؛ فقد قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58].
5- وهو من أكل أموال الناس بالباطل، الذي حرَّمه الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ [البقرة: 188]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحِلُّ مال امرئ مسلم، إلا بطِيب نفس منه))؛ [رواه البيهقي، وأحمد، وصححه الألباني].
6- وهو من أسباب الإفلاس يوم القيامة من الحسنات؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنِيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار)).
7- وتوعده الله تعالى بالفضيحة يوم القيامة؛ فإن آكل الميراث هو في الحقيقة قد اغتصب حق غيره، وسيأتي يحمله يوم القيامة على رؤوس الأشهاد؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ظلم من الأرض شيئًا، طُوِّقه من سبع أرَضين))؛ [متفق عليه]؛ قال العلماء: معنى: (طوقه من سبع أرضين): أنه يُكلَّف نقل سبع أرضين في القيامة وحملها إلى أرض المحشر، ثم تكون كالطوق في عنقه، وفي رواية: ((من أخذ من طريق المسلمين شبرًا، جاء يوم القيامة يحمله من سبع أرضين)).
8- وتوعَّده الله تعالى بالحرمان من الجنة؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من فرَّ من ميراث وارثه، قطع الله ميراثه من الجنة يوم القيامة))؛ [رواه ابن ماجه، وضعفه الألباني].
9- وتوعده الله تعالى بأن يأكل في بطنه من نار جهنم يوم القيامة؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10].
10- وتأمل: كيف حرَّم الله تعالى مجرد الإضرار في الوصية؟ فما ظنك بمن يأكل الميراث؟ وقد عدَّ العلماء الإضرار في الوصية من الكبائر؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل أو المرأة لَيعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضُرهما الموت، فيُضارَّان في الوصية، فتجِبُ لهما النار، ثم قرأ أبو هريرة هذه الآية: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ﴾ [النساء: 12]))؛ [رواه أبو داود].
• والضرر في الوصية يقع على وجوه: أن يوصي بأكثر من الثلث، أو الوصية والمال قليل، أو أن يبيع شيئًا بثمن بخس، أو يشتري شيئًا بثمن غالٍ، أو أن يوصي بالثلث لا لوجه الله، لكن لغرض ألَّا يصل المال إلى الورثة؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنك إن تذَرْ ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكفَّفون الناس))؛ [متفق عليه].
• وقد يكون الضرر من الورثة أيضًا بعدم إنفاذ وصية الميت؛ ولذلك جاء في آيات المواريث ذِكْرُ تقديم الوصية على الدَّين؛ كما قال تعالى: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 12]، مع أن الدَّين مقدَّم على الوصية، ولعل الحكمة في ذلك: التنبيه والحث على تنفيذ الوصية مخافة الإهمال؛ وفي ذلك يقول الزمخشري رحمه الله: "لما كانت الوصية مشابهة للميراث في كونها مأخوذةً من غير عوض، كان إخراجها مما يشق على الورثة، ولا تطيب أنفسهم بها، فكان أداؤها مظِنةً للتفريط، بخلاف الدَّين فإن نفوسهم مطمئنة إلى أدائه؛ فلذلك قُدمت على الدين تأكيدًا على وجوبها، والمسارعة إلى إخراجها مع الدين؛ ولذلك جيء بكلمة "أو" للتسوية بينهما في الوجوب".
أسباب أكل المواريث.
1- فمن أسباب أكل الميراث: ضعف الإيمان.
• فآكِل الميراث ضعيف الإيمان وإن صلى وصام وقرأ القرآن؛ لأنه تشبَّه باليهود الذين قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 93]، فالله تعالى أمرهم، ولكنهم قالوا: سمعنا وعصينا، وآكِلُ الميراث إن لم يقُلْها بلسانه، فإنه يقولها بأفعاله وجحوده لحقوق الورثة.
2- ومن أسباب أكل الميراث: طمع الأقارب في ميراث المرأة.
• وهذا من أعظم الظلم وأشنعه، أن تُحرم المرأة من حقها الذي أعطاه الله تعالى لها وبيَّنه؛ قال تعالى: ﴿ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾ [النساء: 7]، وتأمل: ﴿ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾، من الذي فرضه؟ ومن الذي حدده؟ ومن الذي بيَّنه؟ فرضه رب السماوات والأرض، فرضه من فرض الصلاة وفرض الزكاة وفرض الحج، فبيَّن أن للبنات والنساء نصيبًا مفروضًا من ميراث آبائهن وأزواجهن، وإخوانهن وأقربائهن مما قلَّ منه أو كثر نصيبًا مفروضًا.
3-ومن أسباب أكل الميراث: أن يكون من الورثة من هم ضعفاء؛ كاليتامى وغيرهم، فيُطمع في حقهم، سواء بطريق مباشر: بحرمانه من حقه في الميراث، أو غير مباشر: بحرمان والدته من الميراث؛ ففي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أُحرج حق الضعيفين: اليتيم، والمرأة))؛ [رواه أبو داود، والترمذي، حسنه الألباني]، ومعنى أُحرج؛ أي: أُلْحِق الحَرَج - وهو الإثم - بمن ضيَّع حقهما.
• فليحذر المسلم من أكل مال اليتيم؛ فإن فيه وعيدًا شديدًا؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10].
4- ومن أسباب أكل الميراث: التأخر في تقسيم التركة.
• وهذا من الأخطاء التي تحصل، ولربما استمر الأمر لعدة سنوات؛ وذلك أن من الورثة من يسعى في تأخير القسمة لأهدافه ومصالحه الخاصة دون غيره من الورثة؛ مما يسبب العداوة بين الورثة، وربما اتهم كل واحد منهم الآخر، وأنه يريد أن يأكل من الميراث، وربما طمع فيه إذا نما هذا المال وزاد عنده.
• وتأمل إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم في المسارعة بهذا الأمر؛ ففي صحيح البخاري عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصرَ، فسلَّم ثم قام مسرعًا فتخطَّى رقاب الناس إلى بعض حُجَر نسائه، ففزِع الناس من سرعته، فخرج عليهم فرأى أنهم قد عجِبوا من سرعته، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ذكرتُ شيئًا من تِبْرٍ عندنا، فكرهت أن يحبسني، فأمرت بتقسيمه))، وفي رواية: ((وكنت خلَّفت في البيت تبرًا من الصدقة، فكرهت أن أُبيِّته))، والتبر: قطع ذهب أو فضة.
5- ومن أسباب أكل الميراث: التقاليد والعادات القبلية الجاهلية.
• فبعض الناس عندهم عادات لا يُورِّثون البنات ويجحدون حقوقهم، فإذا قلت له: لماذا لا تورث أخواتك؟ يقول لك: آباؤنا وأجدادنا لا يورثون البنات، ولا شكَّ أن هذه من عادات أهل الجاهلية؛ الذين ذمهم الله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [المائدة: 104]، وقال تعالى: ﴿ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ [الشعراء: 74]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [لقمان: 21].
6- ومن أسباب أكل الميراث:تخصيص الوالد أحد أبنائه لمعرفة أملاكه والبقية لا يعلمون؛ مما يجعله يستحوذ على التركة، ولربما سوَّلت له نفسه في الطمع بحقوق بقية الورثة.
7- ومن أسباب أكل الميراث: أنهم يقسمون للبنت مع أخيها.
• فيقولون: هذا لفلان وفلانة، ثم يبقى هذا الأخ يتصرف في المال وأخته لا يعطيها شيئًا، وربما يعِدها مواعيدَ لا يفي بها، فتبقى هذه الأخت بين نارين؛ إما أن تسكت على مضضٍ وغُصَّة من الظلم، أو تشتكي أخاها للقاضي؛ فتحصل قطيعة لا يمحوها الدهر.
8- ومن أسباب أكل الميراث: التهاون في أمر الوصية؛ ففي الوصية قطع للنزاعات المحتملة، وإنهاء الخلافات التي قد تحدث بين الورثة من بعده؛ ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يُوصي فيه يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده))؛ هذا الحديث في بيان مشروعية الوصية.
• ولو أنك سألت أيَّ أحد: هل كتبت وصيتك؟ لنظر إليك نظرة تعجب واستغراب، وهل أنا على فراش الموت حتى أكتب وصيتي؟ فكم من ميت لم يكتب وصيته فهو مرتهن بدَينه! وكم من غني لم ينتفع بماله بعد موته! وكم من حقوق ضيعت، وأمانات لم تؤدَّ إلى أصحابها! كل ذلك سببه التساهل في كتابه الوصية.
• ونختم بذكر هذه النماذج الرائعة في الوَرَعِ والتحرز من ظلم الغير في المواريث؛ فهذه امرأة من الصالحات كانت تعجن عجينة، فبلغها موت زوجها، فرفعت يدها منه، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء.
• والأخرى كانت تستصبح بمصباح، فجاءها خبر زوجها فأطفأت المصباح، وقالت: هذا زيت قد صار لنا فيه شركاء.
• وأخيرًا: قصة يرويها أحد الدعاة لشاب حرم أخواته الثلاث من الميراث، فماذا حدث له؟ أخواته الثلاث طلبن منه حقهن من أبيهن المتوفَّى، ووعدهن: "في ليلة كذا أعطيكن حقكن ونكتب الأوراق الرسمية"، وجاءت أخواته في الموعد، وكان قد جهز الأوراق والتنازلات، وحينما دخلن، أمرهن بالتوقيع والبصمات، فوقعن وبصمن بحسن نية، وبعد التوقيع والبصمات، وضع الأوراق في حقيبته وقال: "اخرجن؛ فليس لكن شيء عندي، فقد أخذتن حقوقكن كاملة، وهذه هي المستندات"، فقالت إحداهن بعد أن رفعت يديها إلى السماء: "حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا أخي، اللهم خُذْ لي حقي من أخي، اللهم أرِني فيه يومًا"، وكأن أبواب السماء مُفتحة، فسقط على الأرض يصرخ ويستغيث، فحملوه إلى المستشفى، فأُصيب بشلل، شُلَّت يده بدعوة مسكينة مظلومة، وقرر الأطباء أن حالته ميؤوس منها، وظل عشرة أيام يصرخ من شدة الألم، وشكته أخته إلى أحد الدعاة، وجاء هذا الشيخ ليذكره بالله ورد الحقوق، فقال: "يأخذن كل مالي".
وأمر الأخ وكيله المحامي بإعطائهن حقهن غير منقوص، وتم تسليمهن حقهن كاملًا، فسُرَّ وجه أخته التي دعت عليه قبل، ورفعت يديها إلى السماء وقالت: "اللهم اشفِ أخي ابن أمي وأبي".
يقسم الشيخ، وقد سمعه بنفسه: "والله وقف المريض على قدميه بقدرة الله واحتضن أخته، وبكى وبكت أخته وبكى الجميع"؛ [من خطبة جمعة للدكتور خالد البدير حفظه الله].
نسأل الله العظيم أن يصلح أحوال المسلمين.
رمضان صالح العجرمي
شبكة الالوكة