أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل

#1

افتراضي من سنن الله في خلقه (سنة الاستدراج- تقلبهم من حال إلى حال-مدافعة بعضهم بعض)

من سنن الله تعالى في خلقه
(سنة الاستدراج)
(الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل)



منْ سُنَنِ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي عِبَادِهِ: اسْتِدْرَاجُهُمْ بِالنِّعَمِ، وَإِنْذَارُهُمْ بِالنُّذُرِ، ثُمَّ أَخْذُهُمْ بِالنِّقَمِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ قَوْلُ اللَّهِ -تَعَالَى-: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِيّ مَتِينٌ)[الْأَعْرَافِ: 182- 183]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِيّ مَتِينٌ)[الْقَلَمِ: 44- 45].

وَالِاسْتِدْرَاجُ الرَّبَّانِيُّ لِلْبَشَرِ يَقَعُ لِلْأَفْرَادِ وَلِلْأُمَمِ، وَقَدْ يَكُونُ نِعْمَةً إِذَا أَعْقَبَهُ تَوْبَةٌ، وَقَدْ يَكُونُ نِقْمَةً إِذَا خُتِمَ بِعَذَابٍ وَهَلَاكٍ، وَلِلَّهِ -تَعَالَى- الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَى خَلْقِهِ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَاهِرَةُ فِيهِمْ حِينَ يَسْتَدْرِجُهُمْ بِنِعَمِهِ، فَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ النُّذُرَ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ عُذْرٌ.

وَيَكُونُ الِاسْتِدْرَاجُ لِلْكُفَّارِ: فَهُمْ فِي الدُّنْيَا مُسْتَدْرَجُونَ بِالنِّعَمِ لِعَذَابِ الْآخِرَةِ (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)[آلِ عِمْرَانَ: 178]، (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)[آلِ عِمْرَانَ: 196-197]، (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا)[الطَّارِقِ: 17].

وَيَكُونُ الِاسْتِدْرَاجُ لِلظَّلَمَةِ: وَالْكُفْرُ أَعْظَمُ الظُّلْمِ، وَقَدْ يُسْتَدْرَجُ مَنْ بَغَى عَلَى النَّاسِ وَبَخَسَهُمْ حُقُوقَهُمْ، فَلَا يُعَجَّلُ عِقَابُهُ اسْتِدْرَاجًا مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- لَهُ (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)[إِبْرَاهِيمَ: 42]، (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ)[الْحَجِّ: 48]، وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِيُ لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)[هُودٍ: 102]"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

وَيَكُونُ الِاسْتِدْرَاجُ لِلْمُنَافِقِينَ: كَمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى-: (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ)[التَّوْبَةِ: 126]، فَاللَّهُ -تَعَالَى- يَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ وَالْبَلَايَا لِيُذَكِّرَهُمْ، ثُمَّ يُمْهِلُهُمْ لِيَسْتَدْرِجَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ مَاضُونَ فِي عِنَادِهِمْ، مُنْغَمِسُونَ فِي نِفَاقِهِمْ؛ وَلِذَا خَاطَبَ اللَّهُ -تَعَالَى- نَبِيَّهُ بِقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)[التَّوْبَةِ: 55].

وَيَكُونُ الِاسْتِدْرَاجُ لِأَهْلِ الْفُسُوقِ وَالْمَعَاصِي وَالْفُجُورِ: كَمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى-: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)[الشُّعَرَاءِ: 205-207]، وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)[الْأَنْعَامِ: 44]"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).
وَكُلُّ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ الَّتِي عُذِّبَتْ قَدِ اسْتُدْرِجَتْ وَأُنْذِرَتْ قَبْلَ الْعَذَابِ (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ)[الْحَجِّ: 48] وَهِيَ سُنَّةٌ عَامَّةٌ فِي كُلِّ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ؛ كَمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)[الْأَعْرَافِ: 94- 95]. فَهَذَا هُوَ اسْتِدْرَاجُ الْأُمَمِ قَبْلَ عَذَابِهَا.

وَكَذَلِكَ الْأَفْرَادُ يُسْتَدْرَجُونَ بِالنِّعَمِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ بِهِمُ النِّقَمُ (فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[الزُّمَرِ: 49].

وَمِمَّنِ اسْتُدْرِجُوا لِلْعَذَابِ: فِرْعَوْنُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَدْ آتَاهُ الْمُلْكَ وَالْمَالَ، وَأَرْسَلَ لَهُ النُّذُرَ فَلَمْ يَعْتَبِرْ، بَلِ ازْدَادَ فِي اسْتِكْبَارِهِ وَطُغْيَانِهِ (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ)[الْأَعْرَافِ: 133]. فَاكْتَمَلَتْ لِآلِ فِرْعَوْنَ النِّعَمُ؛ اسْتِدْرَاجًا مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي دُعَاءِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَيْهِمْ: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)[يُونُسَ: 88-89]، ثُمَّ كَانَ الْعَذَابُ بِالْغَرَقِ (وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ)[الْأَنْفَالِ: 54].

وَمِمَّنِ اسْتُدْرِجُوا لِلْعَذَابِ قَارُونُ: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)[الْقَصَصِ: 76]، فَكَانَ عَاقِبَةُ اسْتِدْرَاجِهِ مَعَ بَغْيِهِ: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ)[الْقَصَصِ: 81].

وَمِمَّنِ اسْتُدْرِجُوا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ: وَالِدُ سَيْفِ اللَّهِ الْمَسْلُولِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَهُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، كَفَرَ النِّعْمَةَ، وَكَذَّبَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَآذَاهُ، وَكَانَ يُسَمَّى الْوَحِيدَ فِي قَوْمِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "كَانَ الْوَلِيدُ يَقُولُ: أَنَا الْوَحِيدُ بْنُ الْوَحِيدِ، لَيْسَ لِي فِي الْعَرَبِ نَظِيرٌ، وَلَا لِأَبِي الْمُغِيرَةِ نَظِيرٌ"، فَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ -تَعَالَى-: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا)[الْمُدَّثِّرِ: 11 - 17].


من سنن الله في خلقه (سنة الاستدراج- تقلبهم من حال إلى حال-مدافعة بعضهم بعض)

من سنن الله تعالى في خلقه
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
تقلبهم من حال إلى حال



الحمد لله العليم القدير اللطيف الخبير؛ يدبر خلقه كيف شاء، ويقضي في عباده بما أراد، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه {يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد:2].

نحمده على ما أنعم وأعطى، ونشكره على ما دفع وكفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عرفه العباد بآياته ومخلوقاته، ودعاه المؤمنون بأسمائه وصفاته {وَلله الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ حضروا التنزيل، وبلغوا لنا الدين، وترضى عنهم رب العالمين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعرفوا فضل الله تعالى عليكم، ورحمته بكم، وإحسانه إليكم، وقهره فوقكم؛ فلا قوة إلا بالله تعالى، ولا نجاة إلا في دينه، ولا فلاح إلا في مرضاته، ألا وإن الهلاك والعذاب في الاستكبار عن دينه، والاستنكاف من طاعته {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} {الأعراف:165} .

أيها الناس:
لله سبحانه وتعالى في خلقه سنن لا تتبدل ولا تتحول، جعلها عز وجل من دلائل قدرته، وآيات قهره، ودبَّر سبحانه بها خلقه، وبينَّها لعباده فيما أنزل من الكتاب، وما قص من الأخبار {سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62]وفي آية أخرى {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلًا} [فاطر:43] .

ومن السنن الربانية العظيمة في الخلق: تقلبُهم من حال إلى حال، ونقلُهم من طور إلى طور، ونجد هذه السنة الربانية في كل الأحياء على الأرض، وتجري على الأفراد والأمم والدول، بل وعلى النظريات والأفكار والصناعات والتطور، ونجدها في الزمان والأجواء والعمران.

فالإنسان خلق ولم يكن من قبل شيئا {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] ثم لما كان شيئا مذكورا بخلق الله تعالى له تقلب في أطوار عدة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} [المؤمنون:12-14] وفي تمامه بشرا سويا ينتقل في حياته من الطفولة إلى الشباب إلى الكهولة فالهرم {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ} [الرُّوم:54] وفي آية أخرى {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} [يس:68] حتى يفقد التمييز كما كان في طفولته بلا تمييز {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [النحل:70]

لقد كان الله تعالى قادرا على أن يخلق البشر دون الحاجة إلى هذا التدرج، فلا يكونون في قوة بين ضعفين، ولا في قدرة بين عجزين، ولا في كمال بين نقصين، ولكن سنته سبحانه فيهم اقتضت هذا التدرج والانتقال من حال إلى حال، وله سبحانه الحكمة فيما قضى فينا. وكان خلق الحيوان والنبات كخلق الإنسان في التدرج، والانتقال من ضعف إلى قوة، ومن قوة إلى ضعف وشيخوخة وفناء.

هذا في الجانب الجسمي للإنسان، وفي الجانب العقلي القلبي الفكري هو متقلب أيضا من حال إلى حال {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التِّين:6]

وهذا الاستثناء للمؤمنين لأنهم قبلوا هدى الله تعالى كما قال سبحانه {وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76] وفي آية أخرى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] كما أن الذين كانوا في أسفل سافلين إنما كان ذلك بسبب أعمالهم {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] وفي آية أخرى {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} [الصَّف:5].

ولذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ:« يا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي على دِينِكَ قال أنس رضي الله عنه: فقلت: يا رَسُولَ الله، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قال: نعم، إِنَّ الْقُلُوبَ بين إصبعين من أَصَابِعِ الله يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ»رواه الترمذي.

والأفراد والدول والأمم تتقلب أحوالها، وتنتقل من طور إلى طور؛ قوة وضعفا، وصحة ومرضا، وغنى وفقرا، وعزا وذلا، بأسباب كونية قدرية، وبأسباب شرعية مَرْضِيَّة {قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران:26] وما من أفراد إلا فرحوا وحزنوا، وضحكوا وبكوا، وطمعوا وأيسوا، واستبشروا وأبلسوا، وجرى ذلك على الدول والأمم.

وهذه السنة العظيمة في تقلب الأحوال بالأفراد والدول والأمم جاءت في كثير من قصص القرآن للتذكرة والاعتبار، فأمة بني إسرائيل كانت مستضعفة مستخدمة للفراعنة، فقلب الله تعالى حال الفراعنة إلى الذل والهوان بهلاك فرعون وجنده، وقلب حال بني إسرائيل إلى العز والتمكين {وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137] وفي آيات أخرى يقول الله تعالى عن آل فرعون {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:59].

فما أعجب سنن الله تعالى في عباده، وما أسرع تقلبهم من حال إلى حال!!

وفي قصة يوسف عليه السلام التي هي من أعاجيب قصص القرآن، ومن أبين الدلائل على تقلب الأحوال، قرأنا كيف ابتلي يوسف عليه السلام بالجب وكان مظنة الهلاك، ثم بالرِّق وهو مظنة دوام الأسر والذل، ثم بالسجن وهو مظنة البقاء والنسيان، ليبدل الله تعالى حاله في الابتلاء المتتابع، فيُمكِّن له في الأرض، ويجعله على خزائنها، فيعتز به أهله وإخوته الذين أرادوا ذله وهلاكه؛ ولذا ابتدأ الله تعالى هذه القصة العظيمة بقوله سبحانه {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ} [يوسف:3] وختمها بقوله عز وجل {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111] وما ذاك إلا لما فيها من أنوع التنقلات من حال إلى حال، ومن محنة إلى محنة، ثم من محنة إلى منحة ومنة، ومن ذل إلى عز، ومن رق إلى ملك، ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وائتلاف، ومن حزن إلى سرور، ومن رخاء إلى جدب، ومن جدب إلى رخاء، ومن ضيق إلى سعة، ومن إنكار إلى إقرار، فتبارك من قصها فأحسنها ووضحها وبينها.

وفي قصة بني النضير قلب الله تعالى حالهم من الاستقرار إلى التشرد، ومن السعة إلى الضيق، كانوا يعمرون بيوتهم وحصونهم لبقائها، وبقائهم هم فيها، فإذا حالهم ينقلب فيخربونها بأيديهم {فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] فما أسرع النقمة التي حلت بهم بعد النعمة!

وصاحب الجنتين في سورة الكهف سار فيها معجبا مستكبرا، ثم ماذا؟! {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:42]

والتاريخ مملوء بحوادث تقلبت فيها أحوال أفراد ودول وأمم، فعز فيها من كانوا أذلة، وذل فيها من كانوا أعزة، وسادت دول ثم بادت؛ ليخلفها في السيادة غيرها. ورأينا ذلك رأي العين في أفراد افتقروا بعد الغنى، وآخرون اغتنوا بعد الفقر، ورأينا دولا ارتفعت ثم سقطت؛ ليخلفها غيرها {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطَّلاق:12] قال أهل التفسير في قوله سبحانه {يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطَّلاق:12] «بحياة بعض وموت بعض، وغنى قوم وفقر قوم، وما يدبر فيهن من عجيب تدبيره: فينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنهار والصيف والشتاء ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها فينقلهم من حال إلى حال». فلله الحمد على ما خلق ودبر وقضى، وله الشكر على ما منع وما أعطى.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {فَللهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ * وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}[الجاثية:36-37}.



أيها المسلمون:
هذه السنة الربانية العظيمة في تقلب الخلق على أحوال عدة قد طالت ما خلق الله تعالى من الزمان وعلاماته، فالليل والنهار متعاقبان لا يستقران، والشمس والقمر يجريان بحسبان، وفصول السنة تتعاقب من حَرٍّ إلى قَرٍّ، ومن ربيع إلى خريف {يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ} [النور:44].

وقد رأينا خلال الأيام الماضية تقلب الأجواء، وتبدل الأحوال، فتظل الناس عواصف ترابية يخافونها، ويحاذرون منها، فإذا هي تزول بأمر الله تعالى ليخلفها سحب مباركة تأتي بالخير، ورأينا سحبا تتلبد بها السماء حتى إذا طمع الناس فيها زالت وخلفها حاصب من الريح والتراب، وأثناء تقلبات الجو تقلبت قلوب العباد فكانت بين رجاء المطر، وخوف الحاصب، فأبلسوا حينا واستبشروا حينا آخر، فسبحان من قلَّب قلوبهم بين الرجاء والخوف، وسبحان من قلَّب أجواءهم بين التراب والغيث {اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ الله كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الرُّوم:48-50].

ومن سنن الله تعالى في عباده أن الاستقامة على أمره، وإقامة دينه، وتحكيم شريعته سبب للأمن والرزق والبركة، والعز والرفعة والتمكين {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور:55] وفي آية أخرى {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] وفي ثالثة {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجنّ:16].

وحين قلب الله تعالى نعم آل فرعون إلى نقم علل ذلك بقوله سبحانه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:53] فاعرفوا عن الله تعالى سننه، واشكروه على نعمه،واحذروا إتيان ما يقلبها إلى نقم، فليس بين النعمة والنقمة إلا أمر الرب جل جلاله {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ} [القمر:50].


من سنن الله في خلقه (سنة الاستدراج- تقلبهم من حال إلى حال-مدافعة بعضهم بعض)



من سنن الله تعالى في خلقه
مدافعة بعضهم بعضا
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل


الحمد لله العليم الحكيم؛ أتقن كل شيء صنعه، وأحكم خلقه وأبدعه، وجعل في خلقه وقدره من الحكمة ما نعلمه وما نجهله؛ نحمده حمدا يليق بجلاله وعظمته، ونشكره شكرا يوازي نعمه وفضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ اقتضت حكمته سبحانه أن يخلق الناس مختلفين، ولو شاء لخلقهم متفقين بل متماثلين على قلب رجل واحد منهم ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [المائدة:48] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أخبر بافتراق أمته كافتراق الأمم السابقة، وأمر بوحدة الكلمة، والتمسك بالسنة، ولزوم الجماعة، وحذر من الاختلاف والتفرق، ومن تفرقة الدين وتبديله، فكان المبلغ الأمين، والناصح الشفيق، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.


أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتمسكوا بدينه، واصبروا على الأذى فيه؛ فإنه الحق من ربكم، وسوف تسألون عنه في قبوركم ويوم حشركم ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزُّخرف:43-44].

أيها الناس: آيات الله تعالى في خلقه عجيبة، وسننه في عباده كثيرة، وهي سنن ثابتة لا تتبدل ولا تتغير.. لا يملك البشر لها دفعا ولا رفعا، ولا يجدون منها ملجأ ولا مفرا.. سنن حتمية تنزل بهم كما نزلت بمن قبلهم ﴿ سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب:62].





ومن سنن الله تعالى في البشر سنة التدافع؛ وهي سنة مذكورة في القرآن الكريم، فكل الآيات التي تدل على اختلاف البشر، والصراع بينهم، وحكاية أخبار حروبهم، ووقوف الرسل عليهم السلام في وجوه الملأ من أقوامهم فهي دالة على وقوع سنة التدافع فيهم ﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة:253].

وجاء التصريح بسنة التدافع في موضعين من كتاب الله تعالى؛ فأما الموضع الأول فبعد قصة حرب طالوت ومن معه من المؤمنين لجالوت ومن معه من الكافرين؛ إذ بعد الإخبار عن هزيمتهم أخبر سبحانه عن سنته قائلا ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ ﴾ [البقرة:251].

وأما الموضع الثاني فعند الإذن بالجهاد وبيان مشروعيته؛ إذ إن الجهاد سبب لمدافعة الكفر وأهله ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيرًا ﴾ [الحج:40] أي لولا مدافعة المؤمنين من أهل كل ملة كفار أمتهم لهدمت دور العبادة التي شرعها الرسل، وأنشأها أتباعهم، ولمُنعوا من ذكر الله تعالى فيها.

إن آثار هذه السنة الربانية عجيبة لمن درسها وتأملها، وإن صور المدافعة الواقعة لا تحصى من كثرتها، وهي دليل على استدامة هذه السنة، وأنها قانون مستمر لإصلاح ما فسد من حياة البشر وعقائدهم وأفكارهم وعباداتهم وأخلاقهم، وهي دليل على جريان سنة الابتلاء فيهم واستمرارها إلى آخر الزمان.

بسنة التدافع يُسخر الله تعالى المؤمنين للدفاع عن دينه، والذود عن حياضه مسترخصين أرواحهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله تعالى.

وبسنة التدافع يُبتلى المؤمنون بالكفار والمنافقين الذين يقذفون شُبههم في الدين، فينبري لهم حملة العلم وأولو الفكر والرأي دحضا لباطلهم، وكسرا لحججهم، وإزالة لشبههم، وحفظا للعامة منهم، فتنشط العقول من كسلها، وتحسن الألسن فن الجدل والمناظرة ودفع الباطل، وتعرض أحكام الإسلام بأحسن صورة وأبهى حلة، فيعتز الإسلام وأهله، ويزداد يقين المسلمين بدينهم.

وبسنة التدافع ينبري المحتسبون لإزالة المنكرات والأخذ على أيدي أهلها، ومدافعة منشئيها ومروجيها في الناس.

وبسنة التدافع يسعى أهل الحق في إقامة شريعة الله تعالى في الناس، وتحكيمها فيهم، ومقاومة القوانين الوضعية البشرية.

وبسنة التدافع يرفع الله تعالى العذاب العام عن البشر، فلولا دفع الله تعالى بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لهلكت الأرض بمن فيها ﴿ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الفتح:25].

إن من تأمل سنة التدافع في البشر أدرك شيئا من حكمة الله تعالى في تقديرها، وعلم أنها رحمة منه سبحانه بعباده؛ إذ لا سبيل للنمو في الأرض، وتناسل الأحياء، وتقدم العمران إلا بها.

إن الاجتماع البشري لا بد أن ينشأ عنه اختلاف في الأهواء والرغبات، وتعارض في المصالح، والنفوس البشرية فيها حب الأثرة، وحب الرياسة، وحب العلو في الأرض، ومن سنن الله في كونه أن يوجد فيه الشيء وضده، فيوجد الغني والفقير، والصحيح والمريض, والضعيف والقوي, والعالم والجاهل, وغير ذلك من الأضداد التي تقتضيها سنة التدافع البشري، ولا بد أن تنتج هذه المتضادات اختلافا في الآراء والمقاصد والغايات، وتتعدد وجهات النظر وتتصارع الأفكار، كل فريق يبحث عن مصلحته قبل الفريق الآخر، وهذا أمر واقع ومشاهد في جميع المجتمعات، وقد أشار الله تعالى إلى هذا التدافع باعتباره سنة من سننه سبحانه في الاجتماع البشري ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ [هود:118].

إن قضية التدافع بين الحق والباطل قديمة ومتجددة في كل عصر؛ لأنها سنة من سنن الله تعالى في كونه، وهذه القضية مرتبطة بالوجود الإنساني، ومن طلب نهاية لها فقد طلب المستحيل ما دام الإنسان حيا متحركا على ظهر الأرض.

ولذا فإن من الجهل الفاضح، والحماقة المطبقة تغييب المعاني الشرعية العظيمة التي تكرس تميز المسلم عن غيره أو تحريفها وتأويلها كإثبات الولاء والبراء، وحصر الإخاء في أهل الإسلام، واتخاذ الكافرين والمنافقين أعداء، واستبعاد مصطلحات الحروب الدينية، والغزو الفكري، والحملات الصليبية، ومحاولة محو ذاكرة الأمة التاريخية بحجج التعايش والسلام، وهو سراب وأحلام وأوهام يعيشها من لا يعرفون سنة التدافع، ولا يدركون حقائق الواقع، إن هم إلا بيادق يحركها الأعداء لإخضاع أمة الحق لباطل المحرفين للكتاب.

ومن تأمل تاريخ الإسلام وجد فيه صورا من التدافع؛ ففي مكة كان الإسلام ضعيفا، وأتباعه قليل، ثم بالهجرة النبوية وغزوة بدر عز الإسلام وقوي، وبفتح مكة بدأت مرحلة مدافعة الكفر وأهله خارج جزيرة العرب، إلى أن توج ذلك بالقضاء على فارس والروم؛ لتكون السيادة للمسلمين، وانتشر الإسلام في الأرض، ثم سلط الصليبيون والتتر على المسلمين فاستباحوهم، وانتزعوا كثيرا من بلدانهم، فحفز ذلك المسلمين على مدافعتهم وردهم فكان لهم ذلك، ثم سقطت ممالك الأندلس في أيدي الصليبيين، وانحسر مد الإسلام؛ ليقوى مرة أخرى في دولة بني عثمان، التي سقطت بعد ذلك، فاقتسم المستعمرون بلاد المسلمين يحكمونها، فقاومهم المسلمون ودافعوهم، وبذلوا تضحيات جسيمة حتى اقتنع المستعمرون أنه لا بقاء لهم في بلاد المسلمين، فزرعوا عملاءهم بدلا عنهم، فكانوا أخلص للغرب من رعاياهم، وكانوا أشد على الإسلام وأهله من النصارى، وكانوا أشرس في محو الإسلام واجتثاثه، حتى إذا أمنوا وأمن الغرب من ورائهم أن شعائر الإسلام تمحى شعيرة شعيرة، وأن عراه تنقض عروة عروة، وأن بلدانه تنتقص بلدا بلدا، وتقسم دولهم وتفتت، وتعطى للأقليات غير المسلمة؛ انتفضت الشعوب المقهورة على دينها ودنياها؛ لتقوض عروش المستبدين والعملاء، وهذا من أظهر صور المدافعة؛ فالشعوب هي الشعوب، والحكومات هي الحكومات، والقبضة الأمنية هي القبضة الأمنية، ما الذي حدث؟ ما الذي تغير؟ لا شيء إلا أمراً ربانيا لم يتصوره أحد قلب الأمور رأسا على عقب. وبه بدأت حقبة جديدة من سنة التدافع ستغير مجريات الواقع.

والقوى الغربية المستكبرة أمام خيارين أحلاهما مرٌّ، فإما الرضا بعودة الإسلام من جديد، وهو ما لا يريدونه؛ لأنه سيقوض سيادتهم، ويقضي على ظلمهم وجبروتهم، وإما السعي لنشر الفوضى في بلاد المسلمين، فتتعطل مصالح الغرب فيها، ويتقهقر اقتصاده، وتفرز بؤر التوتر والفوضى كفاءات مدربة تغزو الغرب في عقر داره، وتبث الرعب فيها، ولن تكون الفوضى الخلاقة خلاقة للغرب بل ستكون عليه، وإذا أحسن المسلمون توظيف الأحداث لصالحهم، وفقهوا سنة التدافع التي تجري في أرضهم، فاجتمعت كلمتهم، وتراصت صفوفهم، ولم يجعلوا الشيطان ينزغ بينهم فلن يقدر الأعداء على شيء من أمرهم... ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران:103] ﴿ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال:46].

أيها المسلمون: من مقتضيات سنة التدافع الربانية أن الأرض لا ينفرد بحكمها قوة واحدة فتقضي على سواها من القوى، بل في أغلب فترات التاريخ البشري هناك قوتان وقطبان متدافعان يقتسمان غيرهما من الضعاف حتى يكون النصر لأحدهما، وفي الجاهلية وأول الإسلام كانت القوتان فارس والروم، وكان العرب قسمة بينهما، وفي التاريخ الحديث كان المعسكران الشرقي الشيوعي والغربي الليبرالي، ولا يكاد يخلو التاريخ البشري من قوتين متصارعتين، فتلك من ضروارت سنة المدافعة، حتى ذكر أحد من استقرؤوا التاريخ البشري كله أن الحرب هي أحد ثوابت التاريخ، وأنها ضرورة من ضرورات الإعمار في الأرض، ولا شك في أن الحرب هي الأسلوب الأقوى والأظهر لسنة التدافع.

ولذا كان من حماقة صاحب نظرية نهاية التاريخ ظنه بعد اندحار الشيوعية سيادة القيم الليبرالية الرأسمالية ، وأن العالم سينصهر كله فيها، وينتهي التاريخ البشري عندها، وأحمق منه من تبعه من الليبراليين العرب وهم يسمعون آيات الله تعالى تتلى في حتمية التدافع، وبقاء هذه السنة إلى نهاية التاريخ البشري.

ومن حماقة اللبراليين والتنويريين أنهم ظنوا أن الديمقراطية هي نهاية النظم السياسية في الأرض حتى لا يحكم بغيرها، لثبوت صلاحيتها، وأن الحرية بمفهومها الغربي حقيقة مطلقة لا يمكن مناقشتها فضلا عن التشكيك فيها أو ردها، ثم نجد أن الغرب عند الامتحان الحقيقي يتخلى عن أعلى قيمة يمتلكها وهي الحرية لما مسه شيء مما يسمى بالإرهاب فيصادر حرية الرأي المخالف، ويضع الإعلام والثقافة تحت المراقبة الصارمة، وينتهك خصوصية الأفراد بدعوى المحافظة على الأمن القومي.

ولما انتشر النقاب في أوربا، وكان فيه دعوة إلى الإسلام اهتدى بسببه كثير من النساء الغربيات، ضحى الغرب في بلاد الحرية والأنوار بأعلى أقسام الحرية وهي الحرية الشخصية، فمنع المسلمات من النقاب بحجج يضحك منها الصبيان، فهزم نقاب المسلمة الضعيفة أعلى قيمة لدى الغرب القوي، وهذا من التدافع الذي يعمى عنه كثير من الناس.

فإذا كانت ليبرالية الغرب قد هزمت في أغلى شيء قام فكرها عليه وهي الحرية الشخصية، وكان الليبراليون العرب وأذنابهم التنويريون قد هزموا شر هزيمة في الشارع الإسلامي، وانحازت الشعوب في صناديق الاقتراع لمن يمثل الإسلام حقيقة فإن ذلك سيكون بداية طي الصفحة الليبرالية من التاريخ البشري كما طويت قبلها الاشتراكية، ليخلفها فكر جديد ونظام جديد، نسأل الله تعالى أن يكون الإسلام. ولقد كانت مدافعة المسلمين للأفكار الليبرالية سببا لهذا الاندحار السريع، وكان البث الفضائي الذي سخره الغرب لتمرير قيمه في بلاد المسلمين هو السبب في بث الوعي الشرعي والسياسي والفكري في الشارع الإسلامي، وكانت وسائل الاتصال الحديثة سببا أكبر في نجاح التغيير لمصلحة الإسلام بأدوات الغرب وهم لا يشعرون.

وصدق الله العظيم حين قال ﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ﴾ [الطًّارق:15-17].



ملتقى الشفاء الاسلامى




أدوات الموضوع


قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
سنن متفرقة امانى يسرى السنة النبوية الشريفة
من سنن الله تعالى في خلقه (فشل الظالمين وهلاكهم) امانى يسرى المنتدي الاسلامي العام
الحكمة من خلق الله تعالى آدم عليه السلام على مراحل مع قدرته على خلقه بكلمة "كن"The wisdom of the creation of God, Adam, peace be upon him in stages with his ability to create the word "be" لؤلؤة الحَياة What is Islam
أحاديث مشهورة لا تصح أسانيدها لخير البرية lolo_lola احاديث ضعيفة او خاطئة
اسطوانة " سنن الله فى خلقه " للشيخ محمد الراوى من انتاج موقع الطريق إل أمة الله والحمد لله صوتيات ومرئيات اسلامية


الساعة الآن 08:36 AM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل