3-ومن أسباب أكل الميراث: أن يكون من الورثة من هم ضعفاء؛ كاليتامى وغيرهم، فيُطمع في حقهم، سواء بطريق مباشر: بحرمانه من حقه في الميراث، أو غير مباشر: بحرمان والدته من الميراث؛ ففي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أُحرج حق الضعيفين: اليتيم، والمرأة))؛ [رواه أبو داود، والترمذي، حسنه الألباني]، ومعنى أُحرج؛ أي: أُلْحِق الحَرَج - وهو الإثم - بمن ضيَّع حقهما.
• فليحذر المسلم من أكل مال اليتيم؛ فإن فيه وعيدًا شديدًا؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10].
4- ومن أسباب أكل الميراث: التأخر في تقسيم التركة.
• وهذا من الأخطاء التي تحصل، ولربما استمر الأمر لعدة سنوات؛ وذلك أن من الورثة من يسعى في تأخير القسمة لأهدافه ومصالحه الخاصة دون غيره من الورثة؛ مما يسبب العداوة بين الورثة، وربما اتهم كل واحد منهم الآخر، وأنه يريد أن يأكل من الميراث، وربما طمع فيه إذا نما هذا المال وزاد عنده.
• وتأمل إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم في المسارعة بهذا الأمر؛ ففي صحيح البخاري عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصرَ، فسلَّم ثم قام مسرعًا فتخطَّى رقاب الناس إلى بعض حُجَر نسائه، ففزِع الناس من سرعته، فخرج عليهم فرأى أنهم قد عجِبوا من سرعته، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ذكرتُ شيئًا من تِبْرٍ عندنا، فكرهت أن يحبسني، فأمرت بتقسيمه))، وفي رواية: ((وكنت خلَّفت في البيت تبرًا من الصدقة، فكرهت أن أُبيِّته))، والتبر: قطع ذهب أو فضة.
5- ومن أسباب أكل الميراث: التقاليد والعادات القبلية الجاهلية.
• فبعض الناس عندهم عادات لا يُورِّثون البنات ويجحدون حقوقهم، فإذا قلت له: لماذا لا تورث أخواتك؟ يقول لك: آباؤنا وأجدادنا لا يورثون البنات، ولا شكَّ أن هذه من عادات أهل الجاهلية؛ الذين ذمهم الله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [المائدة: 104]، وقال تعالى: ﴿ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ [الشعراء: 74]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [لقمان: 21].
6- ومن أسباب أكل الميراث:تخصيص الوالد أحد أبنائه لمعرفة أملاكه والبقية لا يعلمون؛ مما يجعله يستحوذ على التركة، ولربما سوَّلت له نفسه في الطمع بحقوق بقية الورثة.
7- ومن أسباب أكل الميراث: أنهم يقسمون للبنت مع أخيها.
• فيقولون: هذا لفلان وفلانة، ثم يبقى هذا الأخ يتصرف في المال وأخته لا يعطيها شيئًا، وربما يعِدها مواعيدَ لا يفي بها، فتبقى هذه الأخت بين نارين؛ إما أن تسكت على مضضٍ وغُصَّة من الظلم، أو تشتكي أخاها للقاضي؛ فتحصل قطيعة لا يمحوها الدهر.
8- ومن أسباب أكل الميراث: التهاون في أمر الوصية؛ ففي الوصية قطع للنزاعات المحتملة، وإنهاء الخلافات التي قد تحدث بين الورثة من بعده؛ ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يُوصي فيه يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده))؛ هذا الحديث في بيان مشروعية الوصية.
• ولو أنك سألت أيَّ أحد: هل كتبت وصيتك؟ لنظر إليك نظرة تعجب واستغراب، وهل أنا على فراش الموت حتى أكتب وصيتي؟ فكم من ميت لم يكتب وصيته فهو مرتهن بدَينه! وكم من غني لم ينتفع بماله بعد موته! وكم من حقوق ضيعت، وأمانات لم تؤدَّ إلى أصحابها! كل ذلك سببه التساهل في كتابه الوصية.
• ونختم بذكر هذه النماذج الرائعة في الوَرَعِ والتحرز من ظلم الغير في المواريث؛ فهذه امرأة من الصالحات كانت تعجن عجينة، فبلغها موت زوجها، فرفعت يدها منه، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء.
• والأخرى كانت تستصبح بمصباح، فجاءها خبر زوجها فأطفأت المصباح، وقالت: هذا زيت قد صار لنا فيه شركاء.
• وأخيرًا: قصة يرويها أحد الدعاة لشاب حرم أخواته الثلاث من الميراث، فماذا حدث له؟ أخواته الثلاث طلبن منه حقهن من أبيهن المتوفَّى، ووعدهن: "في ليلة كذا أعطيكن حقكن و
نكتب الأوراق الرسمية"، وجاءت أخواته في الموعد، وكان قد جهز الأوراق والتنازلات، وحينما دخلن، أمرهن بالتوقيع والبصمات، فوقعن وبصمن بحسن نية، وبعد التوقيع والبصمات، وضع الأوراق في حقيبته وقال: "اخرجن؛ فليس لكن شيء عندي، فقد أخذتن حقوقكن كاملة، وهذه هي المستندات"، فقالت إحداهن بعد أن رفعت يديها إلى السماء: "حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا أخي، اللهم خُذْ لي حقي من أخي، اللهم أرِني فيه يومًا"، وكأن أبواب السماء مُفتحة، فسقط على الأرض يصرخ ويستغيث، فحملوه إلى المستشفى، فأُصيب بشلل، شُلَّت يده بدعوة مسكينة مظلومة، وقرر الأطباء أن حالته ميؤوس منها، وظل عشرة أيام يصرخ من شدة الألم، وشكته أخته إلى أحد الدعاة، وجاء هذا الشيخ ليذكره بالله ورد الحقوق، فقال: "يأخذن كل مالي".
وأمر الأخ وكيله المحامي بإعطائهن حقهن غير منقوص، وتم تسليمهن حقهن كاملًا، فسُرَّ وجه أخته التي دعت عليه قبل، ورفعت يديها إلى السماء وقالت: "اللهم اشفِ أخي ابن أمي وأبي".
يقسم الشيخ، وقد سمعه بنفسه: "والله وقف المريض على قدميه بقدرة الله واحتضن أخته، وبكى وبكت أخته وبكى الجميع"؛ [من خطبة جمعة للدكتور خالد البدير حفظه الله].
نسأل الله العظيم أن يصلح أحوال المسلمين.