قبل الحديث عن هذه المفاتيح لا بد من ذكر مسلَّمات إيمانية عقدية فيما يتعلق بقضية الرزق:
1- تقدير الرزق قبل خلق السماوات والأرض: وجَب العلم أن الله هو الذي قدَّر المقادير، وقسم الأرزاق، وحدَّد الآجال قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ﴾ (الحديد: 22)؛ أي قبل خلق الأرض فهي مكتوبة ومقدرة، وقال تعالى: ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾ (الذاريات: 22).
2- تقدير رزقك في بطن أمِّك: حينما يكون الإنسان في بطن أمِّه، قالصلى الله عليه وسلم: "إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكونُ في ذلكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يَكونُ في ذلكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فيه الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ، أَوْ سَعِيدٌ..."[1]. ومحل الشاهد أنه يؤمر المَلك بكَتْب رزقك وأنت جنينٌ في بطن أمِّك فلا تَقلق.
3- الله هو الباسط القابض: ومن معَانيه أنه يبسُط الرزق لمن يشاء ويوسِّع عليه، ويضيِّق على من يشاء، وهذه قسمة الله لا يُسأل عما يفعل سبحانه، فالفقر ودرجاته قسمة الله، والغنى ودرجاته قسمة الله، فلا حول لي ولا حول لك، وإنما الحول لله.
وهذا كله داخل في الابتلاء؛ قال تعالى: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ (المائدة: 48)، وقال: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ (الملك: 2)، فالفقير ابتلاه الله بالفقر لينظر أيصبر أم لا، هل يرضى أم لا؟ وابتلى الغَنيَّ بالمال لينظر هل يشكر أم لا؟ هل يؤدي حقَّ الله في ماله أم لا؟ هل يُراعي حق الفقراء والمساكين أم لا؟ إذًا هناك ابتلاء.
4- لن تموت نفس حتى تستكمل رزقَها: فأبرِد على نفسك، واطلب المال من حلِّه؛ قالصلى الله عليه وسلم: "أيُّها النَّاسُ اتَّقوا اللَّهَ وأجملوا في الطَّلبِ، فإنَّ نفسًا لن تموتَ حتَّى تستوفيَ رزقَها وإن أبطأَ عنْها فاتَّقوا اللَّهَ وأجملوا في الطَّلبِ، خذوا ما حلَّ ودعوا ما حَرُمَ"[2]. إذًا الرزق محسوم، وقد يسأل سَائل: ما الجدوى من هذه المفاتيح؟
نعم الرزق محتوم ولكن لن تصل إليه إلا بأسبابه ومفاتيحه، فما بعض مفاتيح الرزق؟:
المفتاح الأول: التوبة والاستغفار: لماذا التوبة والاستغفار؟ لأن العبد قد يُحرم الرِّزق بالذنب يُصيبه، ماذا قال نوح عليه السلام لقومه؟ قال لهم: "اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا "، فما فوائد هذا الاستغفار؟ ﴿ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ (نوح: 11-12)، فالمطرُ رزق، ويأتي بالأرزاق، والمال رزق، والبنين رزق، فعلينا أن نكثر من الاستغفار معاشر الإخوة الأفاضل.
قصة: ذكر الإمام القرطبي عن ابن صَبيح قال: "شَكا رجل إلى الحسن البصري الجدوبةَ فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولدًا، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بُستانه، فقال له: استغفر الله، فقال له الربيع بن صَبيح أتاك رجال يشكون أنواعًا، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فقال: ما قلت من عندي شيئًا، إن الله عز وجل يقول في سورة نوح: ﴿ قُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ (نوح: 10-12).
ولذلك قالصلى الله عليه وسلم: "مَن لزمَ الاستغفارَ، جعلَ اللَّهُ لَهُ من كلِّ ضيقٍ مخرجًا، ومن كلِّ همٍّ فرجًا، ورزقَهُ مِن حيثُ لا يحتسِبُ"[3]. فرزقُك يأتيك من حيث لا تحتسب شريطة الاستغفار، فأسأل نفسي، واسأل نفسك: كم مرة نستغفر الله في اليوم؟ وهذا رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال: "يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة" [4]. وعن ابن عمر أنه كان قاعدًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم اغفر لي وتبْ عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم، حتى عدَّ العادُّ بيده مائة مرة"[5]. هذا وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
المفتاح الثاني: تقوى الله: والتقوى أن يُطاع الله فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، وقال طَلق بن حَبيب: التقوى أن تطيع الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معاصي الله على نور من الله تخشى عقاب الله؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ (الأعراف: 96)، وقال: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ (البقرة: 197)، ومن اتقى الله رأى العجب، والسؤال: لماذا تزيد التقوى في الرزق؟ لأن المتقي يتجنَّب الإسراف والتبذير، فيربَح ما يبذِّره غيره في الحرام بسبب تقواه التي منعته أن يكون أخًا للشيطان، ولا يُسرف حتى في الحلال؛ لأن الله لا يحب المسرفين، فلا يشتري ما لا يحتاجه، ويوفر مالًا للنفقة على أهله أو للصدقة وفعل الخير، وهذا طريق لحفظ المال، يخبرنا النبيصلى الله عليه وسلم عن رجل فقال: "بَيْنا رَجُلٌ بفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا في سَحابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذلكَ السَّحابُ، فأفْرَغَ ماءَهُ في حَرَّةٍ، فإذا شَرْجَةٌ مِن تِلكَ الشِّراجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذلكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الماءَ، فإذا رَجُلٌ قائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بمِسْحاتِهِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ ما اسْمُكَ؟ قالَ: فُلانٌ، لِلاِسْمِ الذي سَمِعَ في السَّحابَةِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فقالَ: إنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا في السَّحابِ الذي هذا ماؤُهُ يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، لاِسْمِكَ، فَما تَصْنَعُ فيها؟ قالَ: أمَّا إذْ قُلْتَ هذا، فإنِّي أنْظُرُ إلى ما يَخْرُجُ مِنْها، فأتَصَدَّقُ بثُلُثِهِ، وآكُلُ أنا وعِيالِي ثُلُثًا، وأَرُدُّ فيها ثُلُثَهُ"[6]، بهذه التقوى استحق الرزق.
المفتاح الثالث: التوكل على الله: هل نحن متوكلون حقيقة؟ انظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد دخل ذات يوم على عائشة رضي الله عنها فقال: "يا عَائِشَةُ، هلْ عِنْدَكُمْ شَيءٌ؟ قالَتْ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ما عِنْدَنَا شيءٌ، قالَ: فإنِّي صَائِمٌ"[7]، ليس لأن الفطور لم يُعَد، ولكن الفطور غير موجود أصلًا، فافترض لو نحن في مكان النبيصلى الله عليه وسلم كيف نتصرف؟ لكي تعرفوا التوكل الحقيقي، قال تعالى: "وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا" (الطلاق: 3). فالتوكل الحقيقي لا بد له من أسباب، ولذلك قال الله لمريم عليها السلام: "وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ، تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا"(مريم: 25)، يعلِّمنا الله الأسباب، ويعلِّمنا الرسولصلى الله عليه وسلم بقوله: "لو أنَّكم كنتُم توَكلونَ علَى اللهِ حقَّ توَكلِه، لرُزِقتُم كما يرزقُ الطَّيرُ تغدو خماصًا وتروحُ بطانًا"[8]، وقال: "بورِكَ لأمَّتي في بُكورِها"[9].
المفتاح والسبب الرابع: من مفاتيح الرزق: التفرغ لعبادة الله تعالى.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: يا بن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلًا ولم أسد فقرك»؛ [سنن ابن ماجه كتاب الزهد، باب: الهم بالدنيا «4107»، والألباني في الصحيحة «1359»].
وفي رواية أخرى صحيحة قال: «قال ربكم: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقًا، ابن آدم لا تباعد مني أملأ قلبك فقرًا وأملأ يديك شغلًا».
وليس معنى هذا الحديث أنك لا تطلب الرزق ولا تتكسب، ولكن معناه أن يكون العبد حاضر القلب حال عبادته، غير ذاكر لأمر من أمور الدنيا، بل متوجهًا إلى الله تعالى بكل قلبه. ويقول الله جل وعلا: ﴿ وأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ واصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ والْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [سورة طه: 132].
قال ابن كثير رحمه الله: وقوله: ﴿ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ ﴾ [طه: 132]؛ يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 - 58].