هذه السورة التي أصبحت سلوى كل محزون، ورفيقَ كل مسافر، السورة التي إذا سمع المسلم آياتِها لا يجد من نفسه إلا المتابعة معها، والْمُضِيَّ معها حتى نهايتها، وكأنه يسمعها لأول مرة، وهذا لا يحدث مع أي سورة أخرى من سور القرآن الكريم.
وإذا نظرنا في هذه السورة، وفي هداياتها التي دلَّت عليها، نجد فيها عدة أمور؛ نذكرها فيما يلي:
أولًا: أن السورة تحذر من الحسد، وأنه قائم موجود حتى بين الإخوة أبناء الرجل الواحد، وأنه أحيانًا لا يكون سببه كثرة المال، أو قوة النفوذ، وإنما يكون سببه الحب والمشاعر الظاهرة بين الأب وابنه، وفي هذا تحذير للمؤمن أن يتحكم في مشاعره، ويضبطها بميزان الشريعة، ويَحذَر المؤمن كذلك أن يُراعي مشاعر الآخرين، فربما جرَّت عليه كلمةٌ أو معاملةٌ لم يُراعِ فيها الأطرافَ الأخرى ويلاتٍ، كان في غِنًى عنها.
ثانيًا: أهمية العِفَّة في حياة المسلم، وخاصةً الشباب، سيما الشابُّ المغتربُ عن أهله، فإذا اغتربتَ عن أهلك، فإنك لم تغترِبْ عن ربِّك، الذي يراك في كل أحوالك، فنبيُّ الله يوسف تعرَّض لدعوة قلَّ مَن يتعرض لمثلها، من المرأة صاحبة المنصب والجمال، ومع ذلك دفعه الإيمان بالله تعالى إلى الامتناع عن الموافقة على فعل الفاحشة، وفي هذا رسالة للشاب الذي يبذل كل جهد، ويضرب في كل أرض، بحثًا عن علاقة عابرة محرمة مع امرأة لا تحِلُّ له، وأنه يتمنى لو عُرِضَ عليه ما عُرِضَ على يوسف، لَبَادَرَ واستجاب.
ثالثًا: أنَّ بذلَ المعروف يَقِي المرءَ سوءَ الوقائع، ويردُّ الناسَ عن أذى صاحب المعروف؛ فيوسف عليه السلام قال في سبب امتناعه عن موافقة المرأة على الفاحشة: ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [يوسف: 23]، وإذا كان المقصود بالربِّ هنا هو عزيز مصر، فإن إحسانه إلى يوسف مَنَعَ الفاحشةَ أن تقع في أهله وفي بيته، وصرفها الله تعالى عن أهل بيته، وكذلك على المرء أن يحفظ لأهل المعروف معروفَهم، ولا يؤذيهم بشيء لا من قريب ولا من بعيد.
رابعًا: وهي القيمة العظمى في هذه السورة؛ ألَا وهي قيمة وخلق الإحسان، فقد تكررت هذه الكلمة، وهذا الفعل في هذه السورة سبع مرات:
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 22].
﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾ [يوسف: 23].
﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36].
﴿ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 56].
﴿ فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 78].
﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 90].
﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ﴾ [يوسف: 100].
وإذا رأينا مراتب الدين؛ التي هي الإسلام والإيمان والإحسان، وجدنا أن الإحسان أعلاها مرتبة؛ وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).
فيحرص المؤمن على الإحسان إلى الخَلْقِ قدرَ ما يستطيع؛ ففيه نفع لنفسه، ونفع للآخرين، وفيه دفع من الله تعالى للشرور والأذى عنه، ما لا يعلم صاحب الإحسان به.
الأمر الخامس - أيها المسلمون - من هدايات هذه السورة الكريمة، وهو من الأمور اللافتة في هذه السورة، وهو ما يتوافق مع خلق الإحسان؛ وهو خلق العفوِ، وقد تجلَّى في شخصية يوسف عليه السلام في العفو عن إخوته؛ لما مكَّنه الله تعالى منهم: ﴿ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 92].
وفي عفوه عن النساء اللاتي حاوَلْنَ التغرير به.
وفي عفو نبي الله يعقوب عليه السلام عن أبنائه بعد ما فعلوه في أخيهم يوسف: ﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ﴾ [يوسف: 97].
الأمر السادس: أن المؤمن في كل حالاته ينفع الآخرين، فيوسف عليه السلام وهو في محنة السجن كان الرجل الأبرز في خدمة الآخرين ونفعهم، والتخفيف عنهم؛ كما وصفه صاحبا السجن: ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36]؛ أي: إنه كان محسنًا للسجناء الآخرين، فلم تمنعه محنته، والظلم الذي وقع عليه من نفع الآخرين، ولم ينطوِ على نفسه يتحسَّر، ويلوم الزمان وأصحاب الزمان؛ فهو عليه السلام كان متعايشًا مع الوضع الصعب الذي كان فيه، يعيش في السجن وكأن السجن هو عالمه، فهو يعبد الله في السجن، ويدعو إلى الله في السجن، وينفع الآخرين ويداويهم ويطعمهم وهو في السجن، فالمؤمن كالغيثِ أينما وقع نَفَعَ، وهذا يدفع الإنسان المؤمن أن يتعايش مع كل الظروف التي يكون فيها، مهما كانت صعبة أو عسيرة، وينجو بنفسه من أمراض الاكتئاب، أو السلبية واليأس من الحياة، فهذا نبي يوسف في السجن، وذاك نبي الله يونس في بطن الحوت يسبِّح الله تعالى: ﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87].
الأمر السابع: وهو من أغرب المواقف في شأن يوسف في هذه السورة، بل هو أغربها عند النظر والتأمل في فهم شخصية يوسف عليه السلام: ﴿ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴾ [يوسف: 42]، هل لاحظتم بعد موقف النسيان من صاحب يوسف في السجن، أن يوسف لم يقابله بعتبٍ ولا سؤال عن النسيان، وأنه لم يتذكره إلا وقت الحاجة إليه وإلى علمه، فلم يعنِّفه بشيء، ولم يوبِّخه بكلمة، بل أجابه فورًا: ﴿ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ﴾ [يوسف: 45 – 47].
لم يتفوَّه بشيء من عتاب الناس في مثل هذه الحالات، بل فسَّر الرؤيا وكأنه لم يقل لهذا الرجل شيئًا عن حاله فيما سبق من الأيام والسنين.
فلماذا يكون المرء كثيرَ العتاب، كثير السؤال، يحلِّل كل موقف، ويفسِّر كل تصرف على أنه ضده، وأن المقصود هو لا غيره، والتقليل من شأنه؟ وليعلم المغرور في نفسه أن الناس لا يحبون كثيرَ العتب، فبسبب كثرة عتبه، وكثرة لومه، فإن الآخرين ينفرون منه، ويستثقلون وجوده، ويهربون من صحبته، فاقْبَلِ الناس على ما هم عليه، ولا ترجُ منهم فوق ما يستطيعون.
وليكن للمرء أسوة في نبي الله يوسف، فلن يبلغ أحد المكانة التي بلغها، ولن يُنسى النسيانَ الذي أُنسيه.
الأمر الثامن: وهو في شأن التغافُلِ؛ أن يترفَّع المؤمن عن كثير من الأقوال التي يسمعها، أو الأوصاف التي تبلغه: ﴿ قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 77].
تجاوَزْ عن الكلمات الجارحة، ولا تكن سيفًا لا تفوته شاردة ولا واردة، واحمِلْ أقوالَ إخوانك على محامل العذر، ولا تبحث ولا تفتش عن الأقوال المسيئة لك، فلن تجنيَ منها إلا التعب، وضيق الصدر، ووحشة النفس، وفَقْدَ الثقة بالآخرين.
الأمر التاسع: وهو الأخير؛ كما قال ابن الجوزي رحمه الله، وهو الذي امتنع عن قراءة سورة يوسف خمس سنين لما اغترب عن بغداد في واسط، بعد أن وشى به الواشون: "قرأت بواسط مدة مقامي بها كل يوم ختمة، ما قرأت فيها سورة يوسف من حزني على ولدي يوسف، وشوقي إليه".
قال ابن الجوزي: "الظلم ظلمات، ولا بد أن يلقى الظالم جزاءه وإن طالت حبال الأيام، وتأمل لما امتدت أيدي الظلم من إخوة يوسف: ﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ﴾ [يوسف: 20]، امتدت أكفُّهم بين يديه بالطلب يقولون: ﴿ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ﴾ [يوسف: 88]".
ساير بن هليل المسباح
شبكة الالوكة